12 May
12May


كتب : نبيل ياسين( دكتوراه فلسفة)


بعد ان سجلت عنوان اطروحتي للدكتوراه في الفلسفة ، التشكيلات الاجتماعية والاقتصادية وتأثيرها على الدولة والمجتمع في العالم العربي، وجدت نفسي محاطا بالصينولوجيين .  كان هذا المصطلح الذي اخترعته على القياس ، قد اثار دهشة واعجاب ونقاش هادي العلوي عام ١٩٨٦ حين التقينا في دمشق. فقد كان معنيا بالصين وثقافاتها حين كان ماويا معجبا بماوتسي تونغ. 

كانت المشرفة على اطروحتي البروفيسورة ايفا انجل تلميذة وسكرتيرة للفليسلوف المشهور جورج لوكاج ، او لوكاتش كما يكتبه العرب، صاحب النظرية الشهيرة  : الرواية ملحمة برجوازية . وكانت تشغل  منصب رئيسة قسم الفلسفة في جامعة اتفوش لوراند في بودابست.

بعد ان انجزت الفصل الاول ، ذهبت الى ايفا انجل وقلت لها انني اريد ان اترك الدراسة، ولما قالت لماذا؟  اجبت انني لا اجد التشكيلا ت  الاجتماعية والاقتصادية الماركسية الخمس المعروفة ، قالت ماذا وجدت ؟ قلت لقد درست تاريخ التشكيلات الخمس وتطور اشكال ملكية الارض في الاسلام ودور الدولة في توجيه العمليات الاجتماعية والاقتصادية  ووجدت ان غيابا تاما لتشكيلات اساسية مثل العبودية والاقطاع ووجدت ان الرأسمالية في العالم العربي ليست سوى برجوازية كومبرادورية تابعة لاتملك وسائل انتاج ، وان الطبقة العاملة في العراق مثلا حين رفع شعار ديكتاتورية البروليتاريا لم تكن سوى ثلاثة الاف عتال في ميناء البصرة وفي نشاطات تجارية اخرى، وان الدين والايديولوجيا يلعبان دورا اساسيا في التحولات التشكيلية الاقتصادية والاجتماعية، اي باختصار يقلب عالمنا العربي والاسلامي النظرية الماركسية رأسا على عقب. ففي الماركسية تقوم البنى التحتية بتشكيل البنى الفوقية،  لكن ما جرى في تاريخ الشرق الاوسط هو العكس . فالبنى الفوقية تتحكم في سيرورات البنى التحتية  

تبسمت ايفا وقالت انك تسير في الطريق الصحيح وهذا مانحتاجه ، ولذلك حين قرأت عنوان اطروحتك قررت ان اكون مشرفة لموضوعك فهو يهمنا خاصة وانك من الشرق الاوسط. مضيت في اطروحتي واكملتها وانتظرت ستة اشهر حتى حان موعد السنوات  الاربع اللازمة للدكتوراه، كانت ايفا قد دخلت المستشفى اثر نوبة قلبية وتوليت الدفاع عن اطروحتي بمفردي .

كنت قبلها بعام تقريبا قد تعرضت لاصعب امتحان اكاديمي في حياتي في المرحلة التي تسمى الدفاع الداخلي  ، وهو الدفاع الذي يؤهل الاطروحة للمناقشة الاخيرة او لايؤهلها، كان اثنا عشر  استاذا من اساتذة قسم الفلسفة الماركسية في مواجهتي وقد قرأوا الاطروحة ووضعوا ملاحظاتهم . وكانت ايفا قد تخلت عن رئاسة القسم للبروفيسور ارنو لانها كانت تصدر كتابا او اكثر كل عام ، حاصروني طوال ست ساعات باسئلة دقيقة  جعلتني اطلب، بعد اربع ساعات من الأسئلة التي نبشت الاطروحة سطرا سطرا،  استراحة لمدة عشر دقائق سحبت خلالها اكثر من ثلاث سيجارات، وعدت الى القاعة وانا اواجه فلاسفة لايرحمون.

في الساعة التاسعة مساء افرج عن اطروحتي وتم ترشيحها للدفاع الخارجي. كان من حسن حظي ان يرأس لجنة المناقشة فيلسوف عالمي مشهور في نظرية نمط الانتاج الآسيوي، وهذا هو بيت القصيد، هو فرنس توكيي، وكان موريس توريز ، سكرتير الحزب الشيوعي الفرنسي قد كتب ، وهو على فراش مرضه الاخير، مقدمة الطبعة الفرنسية  لكتاب توكيي المشهور نمط الانتاج الاسيوي . 

قبل المناقشة بسنة  قرأ المرحوم حسين مروة الفصل الخاص بالبحث عن التشكيلات الماركسية الخمس في العالم العربي واعجب به، وطلب نشره في مجلة الطريق اللبنانية لكني اعلمته ان المناقشة لم تتم بعد,  ووعدته ان ارسله اليه بعد مناقشة الاطروحة لكنه اغتيل في بيروت . وحين انهيت الدكتوراه بعثت بالفصل الأول لمجلة النهج التي كان يصدرها  مركز الدراسات الاشتراكية في الوطن العربي  ويديره فخري كريم ومجموعته في سوريا فوردتني بعد اكثر من ثلاثة اشهر رسالة اعتذار دون ابداء الاسباب . لكني عرفت بعد ذلك من احد اعضاء هيئة التحرير ان رأيهم كان ان ما كتبه نبيل ياسين يتعارض تماما مع التثقيف الذي كانت الاحزاب الشيوعية العربية تثقف به اعضائها طوال ستين سنة. 

وحين سقط الاتحاد السوفياتي وتفكك تبنى من رفض تلك الافكار والنتائج اطروحاتي وصاروا يكتبون على ضوئها في سرقة علنية دون ان يشيروا الى مصادرها ومن ذلك نظريتي عن تأثيرات النظام السياسي القروي والبدوي في تحويل المدينة الى قرية وبادية من الناحيتين الثقافية والسياسية وفرض قيم وتقاليد القرية والبادية على المدينة خلال الحقبة القومية التي جاء معظم حكامها من القرى والارياف مع جماهيرهم الحزبية . 

يتميز العربي، عموما، بعدم حبه للاكتشاف والاضافة، فهو اما ان  يعود سلفيا سياسيا يسعى لاعادة امجاد ومفاخر معنوية ، واما ان يجلب من الغرب افكارا دون دراستها على ضوء الواقع العربي، ولذلك تتميز المجتمعات العربية مع نخبها السياسية والثقافية بانها مجتمعات قوالب جاهزة. 

يتميز نمط الانتاج الاسيوي الذي اشار اليه ماركس ،ومنع ستالين البحث به ، بدور مركزي للدولة بسبب نظام الري، ولذلك رأى ستالين ان نمط الانتاج الاسيوي نمط زراعي وليس صناعيا وبالتالي لايمكن اضافته الى التشكيلات الماركسية، لكن الدول النموذجية لنمط الانتاج الاسيوي وهي الصين والهند وبلاد فارس وبلاد النهرين ومصر كانت دولا ذات حضارات كبرى ودولا مركزية تحكمت بظهور وتطور التشكيلات الاجتماعية والاقتصادية وحين الغيت المركزية من النظام السياسي في العراق بعد ٢٠٠٣ فان طعنة قاتلة في الظهر طعن بها العراق فجأة ودون وضع مقدمات لتحويل المركزية الى فدرالية وحكومات محلية. لقد جرى تفكيك المركزية لصالح الفوضى التي انتجتها الجماعات التي انفكت عن الدولة في بلاد قامت على مركزية النظام السياسي ومركزية البنى الاجتماعية والاقتصادية ومركزية انظمة الري، لتواجه البلاد نظاما لقيطا يقوم على مباديء ديمقراطية شكلية ويسير باتجاه مباديء خالية من المضامين التي تمثلها الدولة.

هذا ما نعانيه اليوم

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن