11 Jun
11Jun

محاضرة الدكتور جاسم الحلفي

شكراً لمبادرة منتدى بحر العلوم ومعهد العلمين، للجهد المشكور وكرم توفير الإمكانيات، وحسن المتابعة، التي امتدت لأكثر من عام في بحث موضوعة السيادة من جميع جوانبها، اذ أثرتها كوكبة من المختصين بالعلوم السياسية والقانونية والاجتماعية، بهدف بلورة حلول لما يعانيه العراق من أزمات معقّدة ومتشابكة.

أزمة العراق سيادياً

وقد غطت البحوث التي ضمها ( كتاب أزمة العراق سيادياً) إلى جانب سلسلة الندوات التي أعقبت صدروه، معظم جوانب الموضوع، مفاهيميا، اصطلاحا،  تاريخية المفهوم، وما طرأ عليه من تغيرات، كل ذلك استنادا إلى آراء أهم المفكرين الذين شغلهم المفهوم واشتغلوا عليه، بدءاً من أرسطو الذي تناوله بصورته الأولى كما جاء في كتابه "السياسة"  أو كما تصورها افلاطون، مروراً بجان بودان، الذي يعتبر أول من أوضح معنى كلمة السيادة في مؤلفه المعنـون "ستة كتب عن الجمهورية"،  وصولاً إلى هوبز ولوك وجان جاك روسو، كما مر البعض دون أن يشيروا صراحة إلى ما تناوله الفكر الماركسي في هذا الميدان.  اذ يذهب المنهج الماركسي إلى أن  الجوهر الذي تضمنته فكرة السيادة عند نشوئها تاريخياً من كونها الأساس الذي انطلقت منه البرجوازية في عهود تاريخية سابقة لمحاربة الإقطاع وتثبيت مطامحها المشروعة والمبررة تاريخياً في التغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي للمجتمع القائم في حينـه، وإنـشائها لدول قومية مركزية متعددة، اذ ْ لم تعد تلك الدول تشكل وحدات فـي نظـام رئاسـي قـائم تدعمـه الإمبراطورية والبابوية، بل كانت تلك الدول تتمسك بمبدأ السيادة. ووفق المنهج ذاته، اذ تعد السيادة حجر الزاوية في صراع الدول التي تسعى للدفاع عن مصالحها من التبعية الدولية أو الإقليمية، بهدف استكمال عناصر استقلالها السياسي والاقتصادي.

نحاول في هذه الندوة التركيز على التحديات الداخلية وانعكاساتها على السيادة الوطنية، وما يرتبط بذلك من قيم مجتمعية، واشكالية الهوية الوطنية في بلد مستقل من جانب ومن جانب آخر تعصف به أزمات استفحلت، من بينها أزمة السيادة الوطنية، اذ تدخل القوى الخارجية والإقليمية في الشأن الداخلي وصراعها على أرض العراق، مما عقد المشهد أكثر مما هو متشابك.

ويبقى عنوان ندوتنا كبير، لا يمكن استيعاب تفاصيله في هذه الندوة العلمية، التي اشترك بتقديمها مع الزميل الدكتور عدنان صبيح، واعتقد أن واجبنا هو فتح باب النقاش، وهذا ما أتأمله من الحضور الكريم، وفي مقدمتهم أساتذتي المعقبون، الدكتور علي عباس مراد، والدكتور ماجد الفتلاوي، والدكتور خالد عبد الاله. وأشكر مدير الندوة الاستاذ  عمار البغدادي.

دور الحركة الاجتماعية

أعتقد أننا لا نستطيع أكثر من وضع إشارات سريعة لما له صلة بهذا الموضوع، قد تكون بمثابة دقات جرس تنبيه، واسمحوا لي، انطلاقا من المنهج العملي ان اركز في هذه الندوة حول دور الحركة الاجتماعية وصراعها من اجل بناء القيم المجتمعية ومحاولاتها في فرض الهوية الوطنية بدلاً من الهويات الفرعية، مع ان التركيز على العنوان لا يعفيني من التطرق ولو بلمحة إلى المتغيرات العالمية العديدة، والتحولات الكبرى، التي أنتجت مفاهيم جديدة، شغلت موضوعة السيادة حيزاً مهماً في مجال الجدل والنقاش الفكري والسياسي في محاولات مستمرة لمواكبة النظام العالمي الجديد.

لقد تبلور مفهوم السيادة بشكله القانوني في معاهدة "وستفاليا"١٦٤٨، التي أنهت الحروب الدينية في القارة الأوروبية وأقرت مبدأ "سيادة الدولة" على إقليمها. وجاءت بعد ذلك معاهدة "مونتفيديو" في العام ١٩٣٣، المتعلّقة بحقوق وواجبات الدول، ومن بعدها ميثاق الأمم المتحدة الموقع في العام ١٩٤٥ للتأكيد على هذا المفهوم ولتحديد المبادئ المقيدة للدول المستقلة، ومنها مبدأ المساواة في السيادة، ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية لأية دولة، ومبدأ عدم استخدام القوة ضد وحدة وسلامة واستقلال أية دولة. استمر مفهوم السيادة موضوعا ً لجدل فقهي لم يتوقف في الواقع، منذ نشأة الدولة القومية في أوربا في منتصف القرن السابع عشر حتى الآن.

لقد اختلط مفهوم السيادة بغيره من المفاهيم كالاستقلال وحـق تقريـر المـصير، وهناك من يرى السيادة والسلطة مرادفتين لمدلول واحد، مما يتطلب التفريق بين السيادة والسلطة. السيادة أشمل من السلطة، ؛ اذ لا دولة بدون سيادة، ولا سيادة بدون استقلال. مهما تعددت الاجتهادات حول مفهوم السيادة الوطنية ومصيرها في ظل المتغيرات التي شهدها النظام الدولي، تبقى من أهم أسس تنظيم العلاقات بين الدول وتحديد حقوقها وواجباتها. ونظراً لأهمية مبدأ سيادة الدولة، فقد اعتبر العلماء والمفكرون المعنيون بالقانون والسياسة، أن السيادة هي الركن الرابع للدولة بعد الأرض والشعب والحكم.

تتجلى مظاهر السيادة في أية دولة من الدول عبر مظهرين أساسيين: المظهر الخارجي للسيادة، والمظهر الداخلي لها. واذ تطرقت أوراق البحث وكذلك الندوات السابقة، إلى المظهر الخارجي، الذي يقوم على تنظيم العلاقات الخارجية للدولة مع غيرها من الدول وضمن إطار المبادئ العامة للتشريعات والمعايير الدولية والوطنية.

فإن المظهر الداخلي للسيادة: يتجلى ببسط سلطة الدولة على كامل أراضيها، وتطبيق القوانين والتشريعات على جميع المواطنين وبشكل عادل ومتساوي دون تفرقة أو تمييز. وعلى حماية مواطنيها ورعاية مصالحهم، وتحقيق الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي لهم.

عند الحديث عن العراق ونظامه السياسي بعد التغيير، إبان ربيع ٢٠٠٣، اذ تتصارع حول موقعه وموارده ارادات دولية وإقليمية، هذه الدول التي سخرت البعض للتطوع لخدمة مصالح هذه الدولة أو تلك، وأصبحوا أدوات للصراع الدولي – الإقليم ي، بل منهم من أصبح يمثل إرادة الدول الخارجية بدلاً من تمثيله مصالح الشعب العراقي أمام تلك الدول، مما جعل المعادلة مختلة، وأصبحت السيادة للعراق موضوع تساؤل، بعدما أصبحت المحاصصة  حجر الأساس للنظام السياسي، ومنهجه في الحكم، الحكم الذي أنتج الفساد وفشل في تقديم الخدمات، وترك الشعب العراقي يأن من أوضاع معيشية قاسية وهذا هو ميدان موضوعنا الأساسي في هذه الندوة.

أي سيادة يتحصن بها الوطن؟

يقول علم السياسية (السياسة الخارجية هي انعكاس للسياسة الداخلية). فاذا كانت حقوق المواطن بالعيش الكريم مستلبة، من قبل طغمة الفساد، فأي سيادة يتحصن بها الوطن؟ اذ لا فصل بين كرامة الوطن وكرامة المواطن. ولا معنى للسيادة اذا كان الفقر والعوز  ينهش بحياة ملايين المواطنين. لا معنى للسيادة والشعب يعاني الأمرين من نقص  الخدمات وترديها، أي سيادة والفساد ينهش في كل تفصيل الحياة! أي سيادة والمفسدون طلقاء!

نريد وطن؟

لذلك ليست مصادفة أن يرفع المنتفضون في تشرين ٢٠١٩، شعارين أساسيين ( نريد وطن) و ( نازل اخذ حقي). واعتقد أنهما شعاران متلازمان يكمل كل منهما الاخر، بل هما متلازمان، يعني ذلك، أن الحقوق مهضومة، وحيث لا أريد ان أتوسع في هذا الجانب، فقط أشير إلى أن معظم مواد الباب الثاني من الدستور معطلة، كونها تضمن الحق بالعيش الكريم والحق بالتعليم والحق بالضمان الاجتماعي، والضمان الصحي وغير ذلك من ضمانات تحفظ كرامة الانسان.

فشلت الأحزاب المتنفذة

لقد فشلت الأحزاب المتنفذة بقدر ما خدعت الناس، بانها تحقق السيادة للعراق، وتبني ديمقراطية، وانكشفت خدعتها بترسيخ نظام المحاصصة الحاضن للفساد وبقدرته المزعومة على التجاوب مع مصالحهم وضمان مستلزمات حياتهم وحقهم في التعبير، ولم يفهم جيدا المزاج الشعبي الرافض والساخط على ممارسات هذا النظام. ورغم الفشل الذي حصده لم توفر تلك الأحزاب وسيلة للدفاع عن هذا النظام الا واستخدمتها، حتى تلطخت ايادي البعض بدماء شباب العراق الذين سبق وان وهبوا الدماء في مواجهة الإرهاب، مدافعين ببسالة عن بلدهم ومستقبله.

وأخفق نظام المحاصصة في بناء الثقة بين الطبقة الحاكمة وبين عامة الشعب، وصار عدم الثقة يزداد ويتسع وتتسع ويترسخ طردياً مع شدة القمع ومحاصرة الناشطين واشتداد حملات الاعتقال الكيفية.

وفشل نظام المحاصصة في ادعائه المداهن أنه جاء لينجز الاستقلال ويحقق السيادة كاملة غير منقوضة، جاء لإنصاف الشعب ورفع الحيف عنه، ونقل العراق نقلة نوعية بعد السنوات العجاف التي عاشها تحت حكم النظام الدكتاتوري الذي حكم العراق بالنار والحديد.

انتفاضة تشرين كشفت عورات النظام

عندما شخصت الانتفاضة أزمة النظام السياسي و اثبتت، بما لا يقبل الشك، فشل النظام السياسي فشلاً تاما. وقد عرت أساس بنيته القائمة على المحاصصة الطائفية، التي لا تثمر سوى الفساد وكوارثه، التي هي المنتج الأساسي للنظام الفاشل. وكشفت الاحتجاجات ايضا أن الحكومات التي تشكلت وفق المحاصصة، عاجزة كذلك عن توفير فرص العمل للشباب، وتأمين شروط العيش الأمن لهم، إلى جانب عجزها عن توفير الخدمات الأساسية، وبينت في نفس الوقت أن الحلول الجزئية لها والبسيطة غير مجدية، ما يتطلب استبعاد كل فكرة لا تعالج جذر الأزمة، ووضع سياسات بديلة ترتقي إلى مستوى التشابك والتعقيد والخطورة في المشهد السياسي.

المحاصصة الطائفية أزمة النظام

وفي الوقت الذي ترى فيه أن أزمة النظام السياسي أزمة بنيوية وهيكلية، وان بنية المحاصصة الطائفية هي حجر أساس الفشل والكوارث التي حلت بالبلاد، فإنها تدرك أن لا مفر من وقوع أزمة كارثية، ذات وقع أقوى وأعم وأشمل من كل ما شهدناه، اذا لم تتم قطيعة كاملة مع نهج المحاصصة. لا مخرج من الأزمة الا عبر مثلث التغيير والإصلاح والتجديد.

لم تستطع سلطات النظام ومؤسساته ان تدرك ان الشعب لم يعد قادراً على تحمل المزيد من أعباء فشل النظام، وانه يرفض العيش اكثر في ظل العوز والفاقة والبؤس. لم يدرك المتنفذون أن الشعب لا يسكت عن المطالبة بحقوقه، وان الخطاب الطائفي لم يعد ينطلي عليه.

ليس من معنى إلا الجهل وفقر فكر السلطة، الذي نصح بتفكيك الانتفاضة، والتسلل لها، ومحاولة احتوائها، واختراقها، إلى جانب القتل المنظم والإرهاب الدموي، واستخدام العنف، في محاولة لإنهائها، لكن ما دام فواعلها باقية، وان مطالبها لم تتحقق فإنها ستستمر، وليس من دون مغزى ان التظاهرات انطلقت واستمرت في عدد من المناطق المحافظات.

السيادة الخارجية غير ممكنة بدون السيادة الداخلية

أخيرا: هي ملاحظة منهجية: حينما نتحدث عن التحديات الداخلية واثرها على السيادة، فإننا لا ننفرد في طرحنا حول السيادة الداخلية، فقد ركز المفكر بودان على ذلك، بعده اول من عالج مفهوم السيادة من زاوية الشؤون الداخلية وعلاقة الدولة بالمواطنين. لأن السيادة الخارجية غير ممكنة دون السيادة الداخلية، السيادة داخل الدولة إنما هي الأساس للسيادة مع خارجها.  السيادة الداخلية المتمركزة والمستقرة التي يمارسـها الـشعب بذاتـه وقناعاتـه وإرادتـه، أي بديمقراطية، تنعكس على العلاقات الخارجية للدولة التي تكفلها أحكـام القـانون الدولي كأساس لاعتراف الدول بوجودها. وأكد الدستور الفرنسي الصادر عام ١٩٥٨، في مادته الثالثة أن السيادة القومية تعود للشعب الذي يمارسها بواسطة ممثلية.  فالسيادة بهذا المعنى مرتبطة بحق الشعوب في تقرير مصيرها. وقد نظر الفكر الماركسي لمفهوم السيادة من جانب بعدها الطبقي، وكأداة لكفاح الشعوب من أجل حقها بالعيش الكريم دون استغلال داخلي او خارجي. مثلت إشكالية العلاقات والتفاعل بين البعدين الداخلي والخارجي للسيادة واحدة من أهم الاشكاليات النظرية التي كانت ملهمة للعديد من السجلات العلمية.

___________________________

*  هذه الندوة  .. تحمل عنوان: (القيم المجتمعية والهوية الوطنية) ..  وكانت الندوة الافتراضية الرابعة. ضمن سلسلة ندوات مترابطة ومتكاملة ومتواصلة.. جرت و كل منها تعتمد على مخرجات الندوة التي سبقتها.. وتتكامل معها.. وصولاً إلى الإجابة على التساؤلات التي أثارها كتاب (أزمة العراق سيادياً ). الندوة ــ بسبب الأوضاع الصحية وجائحة كوروناـ تجري عبر الانترنت من خلال برنامج زووم، وقد بثّت الندوة  مباشرة على صفحات ملتقى بحر العلوم للحوار وصفحة معهد العلمين للدراسات العليا على الفيس البوك..بتاريخ  23 اذار 2021    

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن