13 Jun
13Jun

محاضرة :  الدكتور عدنان صبيح

السيادة من بوابة الجانب الاجتماعي 

شكرا للأخوة القائمين على مشروع السيادة ( معهد العلمين للدراسات العليا، ملتقى بحر العلوم للحوار، صحيفة المواطن)، والتي سيكون فيها الجانب الاجتماعي بوابة، اعتقد أنها أصعب حلقة في المشروع، لأن مفاهيم السيادة والهوية الوطنية، ممكن ان تجد لها طريقاً خطابياً على أقل تقدير في سياق خطابات الزعامات ورجالات الحكم. لكن الصعوبة تكمن في أن تبحث عن تلك المفاهيم داخل المجتمع، لأننا نقع أمام تساؤلات عدة منها.

هل المجتمع يعرف تلك المفاهيم؟ ..

الحقيقة علمياً لا يتطلب من المجتمع ان يعرف المفهوم اصطلاحاً، لكن المشكلة تكمن في أن عمليات التحليل والاستقراء  تقودنا إلى نتيجة مخالفة لما يتم طرحه في الاوساط الأكاديمية والنخب الثقافية منها والسياسية.

 أي ربما على المستوى السياسي يتعاطى المجتمع مع مفردات تتعلق بالهوية الوطنية، او السيادة، او الدولة، او العقد الاجتماعي. او تحمل له همّا مجتمعيا، بالسعي إلى تطبيقها او الحيلولة دون تراجع تلك المفهومات. 

ذاكرة مجتمعية لتعزيز المفاهيم

لكن بالمقابل لم نعمل ما يعزز تلك المفهومات لا على المستوى الخطابي ولا على المستوى التطبيقي. أي أن تلك المفاهيم حتى تتعزز تحتاج إلى ذاكرة مجتمعية لتعزيزها وهذه الذاكرة المجتمعية تحتاج إلى ممارسات من الدولة، و اهتمام، واجراءات. ويجب أن تكون تلك الذاكرة قائمة على المشتركات، و تشمل أكبر عدد ممكن من الشعب. أي أنها لا تخص جماعة دون غيرها.

رمزيات تحمل المشاعر الجماعية

وترتبط تلك الذاكرة  برمزيات تحمل كمّاً من المشاعر الجماعية ، وهي جزء أساسي منها. وهذا يقودنا إلى التساؤل: أي من المحطات تحمل ذاكرة عراقية ممكن ان تكون مصدر توحيد لهم. وترتبط مشاعرهم بها؟ .... وهل عملنا على انتاج ذاكرة؟ ... الذاكرة تلتئم و تتكون في المآسي والمحن والحروب والاضطهادات التي تتعرض لها الشعوب، لكن بالمقابل تعمل الحكومات والمؤسسات المجتمعية على تفعيل تلك الذاكرة لكي ترسخها من جانب وتكون مهيأة للتفعيل بصورة مستمرة.

النظام البعثي نجح في انتاج الذاكرة

مثلا ... عمل النظام البعثي كثيرا على إنتاج الذاكرة ( لكن ذاكرة خاصة به، وهي تتماشى مع الايدلوجيا التي يؤمن ويسير نحوها... فكانت تلك الذاكرة ( كما ينظر لها  دافيز في كتابه مذكرات دولة) (هو الاستفادة من أموال النفط وتخصيص جزء منها في الجانب الثقافي الذي يعمل على انتاج ذاكرة)... فكانت المفردات الخاصة بالبعث تدخل مع الطالب في الابتدائية وهو لا يعرف شيئاً بعد، يواجه بنشيد وخطاب واطلاقات نارية ترافق رفع العلم، بمجرد دخوله في اول فعالية في المدرسة وهو الاصطفاف الصباحي. ثم يدخل إلى الصف فيجد صورة صدام بوجهه، وكل قيام وجلوس يتردد على لسانه اسم صدام. يدرس الوطنية، ويعود إلى البيت يجد صور المعركة. وخطاب الرئيس. والفعاليات الثقافية، والنُصب في الشارع ،التي اصبحت جزءاً من الذاكرة....

 وبالتالي هو عمل على انتاج ذاكرة لذلك الشعب لجميع الاعمار والفئات، من خلال النصب والفعاليات الثقافية، والمؤلفات والمناهج في كل مكان...  بالمقابل بعد 2003 هل استفدنا من هذه التجربة؟ هل عندما رفعنا نصباً معيناً أبدلناه بنصب معبرة اكثر؟ هل صنعنا رموزا؟ تكون مصدر الهام  للهوية الاجتماعية. او الهوية الوطنية.

بوابات للهوية الوطنية

الحرب على داعش مثلا،  كانت بوابة مهمة للتعبير عن الهوية الوطنية العراقية. التي تحمل في طياتها عدداً من المفاهيم التي من الممكن العمل عليها مثل مفهوم السيادة، ومفهوم الهوية الوطنية ، ومفهوم الدفاع عن الأرض. ومفهوم الشجاعة العراقية. ومفهوم الظلم الذي تعرض له العراقيون/ ومفاهيم أخرى، لكن الواقع يقول أننا أهملناها كما أهملنا غيرها.

قضية الخروج من الاقتتال الطائفي

الذي عانت منه كل المناطق العراقية. هل يوجد يوم يحتفل فيه العراقيون بمناسبة الخروج أو التخلص من الاقتتال الطائفي؟وهل يعرف العراقيون لحظة انتهاء تلك المرحلة. هل هي في 2007 ام 2008؟.

لحظة 2003 كانت لحظة مهمة بل هي من أهم اللحظات للعراقيين، لكن لمجيئها من الخارج كان من الصعوبة أن تكون مصدراً للتعبير عمّا يريده المجتمع، لكننا لم نجد طريقاً ممكناً يوحد العراقيين ، وتكون تلك اللحظة مهمة للجميع.

ذلك يقودنا إلى تساؤل آخر: من المسؤول عن تعزيز تلك المفاهيم؟

الدولة بزعاماتها ومؤسساتها

إن الدولة بزعاماتها ومن ثم مؤسساتها هي المسؤولة على الانتاج والترويج لتعزيز تلك المفاهيم. هل عملت الزعامات السياسية على انتاج مفاهيم أو الترويج لمفاهيم لتصل إلى المستوى الشعبي؟. 

هناك اعتقاد مستمر للزعامات السياسية بان تلك المفاهيم لا تصلح للترويج الانتخابي. ولأن الزعامات تفكر بالترويج الانتخابي فإن مفاهيم الهوية الوطنية، والسيادة، ومفاهيم تجتمع عليها الناس لم تكن عملة قابلة للترويج.

ويفشل الترويج لتلك المفاهيم لسببين: 

 أولاً.... 

1- هو لم يعطِ المعنى الواضح الذي يمكن ان يروج للجمهور... وغالبا ما تكون تلك المفاهيم مطاطية... ذات مساحة كبيرة يستطيع السير من خلالها، لانه يعرف أن خطابه متغير نتيجة لمصلحة معينة،  وباختصار ان رجل السياسة في العراق يتحول بحسب مقتضيات الوضع الداخلي والخارجي... بخصوص قضية التغير . يقول الانثروبولوجي الفرنسي جلبير دوران ان الرمزيات التي تتحكم في المجتمع ( هي رمزية  المحارب، والكاهن ، والفلاح)، مرة تصعد أسهم رجل الدين... ومرة المحارب ... وأخرى الفلاح... بحسب الظروف المحيطة والتطورات المحيطة ..

 لكن في العراق  يكون السياسي رجل دين وخطابه كرجل دين ومن ثم التعامل مع ملفات الحدود والسيادة والهوية (الذات والاخر)، تختلف عندما يتغير ويصبح محارباً. فالذات والاخر عند رجل الدين في الحديث عن الهوية، تختلف عن الهوية والأرض التي يتحدث بها المحارب... فيما يتعلق عن رمزية الفلاح فهي ابتدأت في عام 1908 في العراق عندما أصبح العراق مصدّراً للتمور والمحاصيل الزراعية، إلا أنها  انتهت في العراق منذ 1958 بمشاريع سُميت بالإصلاح الزراعي. 

السياسيون في العراق أنفسهم، كانوا مرة رجال دين ومرة أخرى محاربين. (هم انفسهم) يعني عندما ارادوا التغيير لم يقدموا اشخاصاً آخرين مراعاة للتغير بل هم تغيروا. نعود إلى المفهوم الواسع المطاطي الذي يحمل عددا من التأويلات، فهو لأنه يعرف نفسه بانه متغير غير ثابت. فهو يطرح مفاهيم قابلة للتأويلات، مثلاً  أحد الزعماء السياسيين العراقيين، عندما يريد أن يتحدث عن الملف الخارجي والعلاقات الخارجية، وفي مناسبة خطابية مهمة يقول ( من يحب العراق نحبه).

من يحب العراق نحبه؟ 

اذا نظرنا إلى تلك العبارة ( من يحب العراق نحبه) بصورة واضحة، فهي لم تستندْ إلى معنًى واضح، هل الحب هو المقياس؟، وما مقياس الحب؟ ومَن يملك ذلك المقياس؟ وهل هناك مقياس واحد؟ أسئلة جعلها مفتوحة ، تهيئ لخطاب آخر، أو تسحب الجمهور لعبارات تصلح للاستدعاء الذهني في وقت لاحق، تساعد ظروف مرحلتها على تفسير الحب على المستوى الخارجي. أعني أن السياسي العراقي لم يكن يسعى إلى أن يثبت او يقعّد مفاهيم يتم من خلالها الترابط والسير نحوها مع الجمهور، وهذا يعني بصراحة انه لا يحتاج الجمهور، إلا أن يتبعه فقط. وأن لا يكون له القرار.

الممارسات الخطابية أحدثت فجوة 

هي تشبه الرواية الرائعة التي تفسر لنا كثيراً من المنبهات الاجتماعية السياسية ( رائعة جورج اوريل مزرعة الحيوانات) و كانت فيها فئة معينة تعرف القراءة وهي من كتبت دستور تلك المزرعة، وفي اي مخالفة تحدث، يسألون لما حدثت هذه الخروقات ، يجيبون بانه لم يحدث خرق، والذي يريد قراءة بنود الدستور يذهب ويقرأه، ولأنهم متأكدون أن الاخرين لا يعرفون القراءة، يصمت المعترض؛ لذلك هو سيقول بأنه لم يخالف نفسه، وإنّما كان يقصد ذلك في خطابه المطاطي.

 تلك الممارسات الخطابية لم تصنع حاجزاً بين الزعيم السياسي والجمهور فحسب ، بل هي ابعدت الجمهور عن القرار السياسي، وأحدثت فجوة بين المفاهيم وتفسيرها، ولذلك نحن نختلف على مفاهيم السيادة والهوية الوطنية، بل حتى مفهوم الدولة لم يستطع الجمهور أن يتفق عليه.

الأحزاب السياسية لا تملك نخباً لترويج مشاريعها 

السبب الثاني ، هو إن الأحزاب السياسية أو الزعامات لا تملك نخباً سياسية تصلح بأن تروج لمشاريعها ، وهنا سأتحدث كإعلامي نستضيف شخصيات حزبية لمناقشة مشاريع ومفاهيم يطرحها زعمائهم فنتفاجأ بانه إما لا يعرف مداليل وأهداف ذلك المشروع.. أو انهم يتحدثون بطريقة مخالفة... يعني الزعيم الغير قادر على الافهام او التواصل مع نخبه، الذين هم في حزبه كيف يمكن له ان يقنع الجمهور. هذا من جانب تعامل الجمهور مع مفاهيم الهوية الوطنية والسيادة وغيرها....

مفهوم الهوية الوطنية 

المحور الثاني سنتحدث عن مفهوم الهوية الوطنية.. وتطبيق المفهوم على الوضع العراقي بتقسيمات الهوية يمكن القول إن هناك ثلاثة أنواع من الهوية:

  الهوية الفردية، ممكن ان تكون هي السيرة الذاتية لكل انسان منذ ولادته، فهو يحمل اسما، وجنسا( ذكر او انثى)، وجماعة تشكل المتفاعلين معه، قدرة الانسان في الحفاظ على هذه الإنتماءات هي وتعزيزها وحتى تغييرها هي التي تشكل هويته الفردية. 

الهوية الاجتماعية ... ببساطة هي وعي الجماعة لذاتها وإدراكها للآخر والحدود الفاصلة بينهما،  وهناك دور في ربط الجماعة لعلاقات المصلحة ، والمشاعر المشتركة، ولا يوجد مجتمع من دون هوية اجتماعية . 

الهوية الوطنية ... وهو تجلي للهوية الاجتماعية... أو هو أوسع تجليات الهوية الاجتماعية... وتعتمد بصورة أساس على وجود سياسي يدعى دولة .. حين يفرض على مواطني تلك الدولة حمل هويتها الوطنية.

هل يملك العراقيون رموزاً مشتركة؟ 

يعرف انتوني سميث الهوية الوطنية بأنها إعادة إنتاج وإعادة تفسير دائم للرموز والقيم والذكريات.. والأساطير والتراث الذي يميز الأمم ويعرف به الافراد...  وهنا علينا التوقف قليلا... ونتساءل هل يملك العراقيون رموزا مشتركة... هل لديهم ذكريات مشتركة .... هل سردياتهم موحدة.... يعني ينتمون إلى سرديات موحدة.... 

الشيعة في العراق يسعون في خطابهم وهو كاستفتاء يومي إلى ذكر السرديات التاريخية الخاصة بالتاريخ الشيعي ... والسرديات الشيعية الأساسية ثلاث.. أولها الطف، وثانيها السقيفة، وثالثها الغيبة .... وهي سرديات خاصة بالشيعة بل هي عناصر افتراق ولم تكن يوما عنصر اقتراب، مع الطائفة أو الجماعة الثانية، وهي الجماعة السنية.

 بينما يتجه السنة العراقيون منذ بداية القرن الماضي (بعد انتهاء الوجود العثماني) إلى سرديات عربية او تؤكد قربهم من الإنتماء العربي... وهذا عنصر افتراق لسببين: الأول لأنهم يريدون ان يقولوا إن الامة العربية تمثل فيها الشيعة كأقلية ... 

ولم يسعوا إلى مفهوم الامة العراقية لأن فيها الشيعة اغلبية.... وهناك باب ثاني متعلق بالشيعة الذين بالمقابل يريدون مفهوم الأمة العراقية، إلى طرح مفهوم الامة العراقية، لأنهم يريدون أبعاد التهمة الفارسية عنهم... وثانيها لانهم اغلبية في الأمة العراقية. 

والأمة الكردية التي تحاول مراراً ان تنتج سرديات او تركز على سرديات خاصة بقوميتها، وهذا المثال دائما ما نحاور به الكرد، اتذكر عندما سألت الكاتب والمثقف الكردي المرحوم  فلك الدين كاكائي... فقلت له لماذا تعيدون انتاج قصة صلاح الدين الأيوبي.... قال لأنه قائد كردي، وليس لأنه قائد اسلامي....

 بالتالي اي رموز واي سرديات مشتركة ممكن ان نتحدث عنها. ولذلك يشير ( اريك دافيز)  إلى أن العراقيين عندما يبحثون هوية تجمعهم يعودون إلى حضارات سومر وبابل.... 

كما حدث في عام 1998... عندما توجهت السلطة آنذاك إلى العمل على انتاج هوية وطنية... طبعا كل الاحداث التي رافقت تشكيل النظام السياسي الجديد في العراق بعد 2003... لم تبنِ هياكل تؤسس إلى انتاج هوية وطنية

عوامل تكوين الهوية الوطنية

العوامل الأولية ... مثل الدين واللغة والادب والاساطير.... وهذه بوابة مهمة لكنها غير كافية، فلم يكن الدين واللغة وحده قادرا على انتاج هوية وطنية (يمكن ان يكون الدين واللغة والاساطير قادرا على انتاج هوية اجتماعية). لكنه سيكون بوابة للهوية الوطنية، ولذلك هي عناصر اولية، كما يقول العالم ميلر. 

وثمة عوامل تلقينية عن طريق التعليم ، أي بدلا من ان يكون التوجه التعليمي في العراق لتوجهات محددة في الهوية الاجتماعية، يمكن أن تكون هناك جرعات عالية في التضحية والفداء من أجل الوطن، وربما حرب مواجهة داعش تكون نموذجا للتركيز على التضحية ، بدلاً من عناصر الافتراق، او التركيز عليها. 

أما التهديد الخارجي، فيمكن ان يكون عاملا مهما اذا ما تمت صياغته برمزيات تحمل مشاعر مشتركة، وهناك امم تكونت من التركيز على قضية التهديد الخارجي

 وأخيراً العناصرالتكوينية مثل بناء الدولة ، والجيش والدستور الدائم، ويكون ذلك الدستور عنصرا أساسا في صنع الهوية الوطنية.

الهوية الوطنية والإنتماء 

وقبل أن أختم فقط أريد أن أقول إن بناء الهوية الوطنية، والمفاهيم الأخرى تحتاج إلى شعور بالإنتماء إلى النظام السياسي.

________________________

*  هذه الندوة  .. تحمل عنوان: (القيم المجتمعية والهوية الوطنية) ..  وكانت الندوة الافتراضية الرابعة . ضمن سلسلة ندوات مترابطة ومتكاملة ومتواصلة.. جرت و كل منها تعتمد على مخرجات الندوة التي سبقتها.. وتتكامل معها.. وصولاً إلى الإجابة على التساؤلات التي أثارها كتاب (أزمة العراق سيادياً ). الندوة ــ بسبب الأوضاع الصحية وجائحة كوروناـ تجري عبر الانترنت من خلال برنامج زووم، وقد بثّت الندوة  مباشرة على صفحات ملتقى بحر العلوم للحوار وصفحة معهد العلمين للدراسات العليا على الفيس البوك..بتاريخ  23 اذار 2021    




تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن