د. محمد القريشي
اعتل جسده ورق عظمه وضعف بصره ولازم فراشه منتظرا الموت بالدعاء والسكينة، حتى دخل عليه مبعوث الكنيسة في احدى الليالي ليسمع منه خطاب الاعتراف الاخير ويحدثه بصيغة الناصح المحب :"سيدي الكاردينال لقد حان الوقت كي تعترف وتعتذر الى اعدائك الذين يكرهونك كثيرا.. "تحرك قليلا في موضعه واجابه بصوت جهور : "ليس لدي اعداء سوى اعداء الدولة".
الكاردينال الفرنسي ريشليو الذي نصبته الكنيسة الكاثوليكية وزيرا لخارجية فرنسا في عهد لويس الثالث عشر ليصبح بعد ذلك رئيسا للوزراء عام ١٦٢٢م بهدف توحيد صفوف المسيحيين بعد ظهور التيار البروتستانتي واندلاع الحروب الدينية .
ولكن صفته الكاثوليكية لم تمنعه من عقد تحالفات لفرنسا مع اطراف بروتستانتية في الحرب بهدف اضعاف دول كاثوليكية مثل اسبانيا والنمسا لتعزيز منزلة فرنسا كقوة بارزة في اوروبا. لم يكن راضيا على تزايد سلطة النبلاء على حساب سلطة الدولة، فحاصر قلاعهم وحطم حصونها ولكنه ابقى الاجزاء المطلة منها على البحر لحماية الدولة من الغزوات الخارجية، والتفت الى البروتستانت المنتفضين وتفاوض معهم ومنحهم صفة المساواة مع الكاثوليك وجردهم من الاسلحه واضعا بهذا العمل اساس مفهوم "المواطنة" الذي تطور فيما بعد .
انتبه الى انتشار الجدل الفكري في اوساط البروتستانت بشكل اوسع من الكاثوليك، فأنشأ لاول مرة بالتاريخ، الاكاديمية الفرنسية عام ١٦٣٥ م ( الاسم الذي اختاره مشتقا من اسم حديقة اكاديموس في اثينا وهو المكان الذي قدم فيه افلاطون دروسه الفلسفية).
وهي مؤسسة ارادها ان تكون مختصة في تطوير اللغة الفرنسية ( بند ٢٤ من الميثاق : المهمة الاساسية للاكاديمية ستدور حول العمل بكل عناية لوضع قواعد للغتنا وجعلها نقية وخطابية وقادرة على استيعاب العلوم والفنون)، واصبحت مكانا مرموقا يلتقي فيه اهل العلم واللغة، واصدرت بعد حين اول قاموس للغة الفرنسية.
وبسبب حبه للاداب والفنون وهيبة الدولة، فقد بنى احد اكبر وافخم قصور فرنسا ، من النواحي المعمارية و الفنية وجعله رمزا للدولة تجتمع فيه النخب الحاكمة والعلماء ، ولم يعش به يوما واحدا ابدا، وساهم بتأسيس جامعة السوربون وكان رئيسا لدورتها الاولى ، وبنى جهاز معلومات داخلية وخارجية رصين يعينه على صنع السياسات الداعمة للدولة.
وبالنظر لاختلاف شخصيته المميزة بالحذر والحساب والاستشراف عن شخصية الملك المعروفة بالحدة والانفعال وسرعة التغيير، فقد اتسمت علاقته مع الملك "بالتأني والحساب" تجنبا لمكائد الحاسدين، "والتكامل والنصح الصادق" من اجل مصلحة فرنسا العليا.
وفي وقت لم يكن للشعوب فيه اعتبار لدى السلطات الحاكمة اشار الكاردينال على الملك، بان يخاطب النخب والنبلاء ورجال الدين بطريقة معينة، ولايهمل مخاطبة الشعب (يجب ان نعرف كيف نخاطب الصقور وكيف نخاطب الحمامات).
وفي ذروة قوة الحكومات الدينية خلال القرن السابع عشر، اخرج الكاردينال ريشليو دولته من عباءة الدين على خلاف ارادة الكنيسة ووفى عهده الذي قطعه على الملك في بداية تسنمه للحكم ( اتعهد بان اعيد قوة الدولة الفرنسية في اوروبا)..مات ريشليو ، صلبا عتيا، وترك خلفه قلة من المحبين وكثرة من الكارهين، ولم يهتز له جفن حول ذلك، لانه كان واثقا بانه يمثل "ظل الدولة" على الارض ، ومن يكرهه يكره" الدولة" نفسها.
رحل اول "رجل دولة" في التاريخ الحديث، وتنفست الكنيسة الصعداء بعد رحيله وعلق البابا اوربان الثامن على وفاته بعد حين ( إذا كان الله موجودا فهناك قلق عليه، واذا كان غير ذلك فقد لعبها الكاردينال جيدا)..
ورغم مضي اكثر من خمسة قرون على رحيله، خاطبه احد مقدمي البرامج الوثائقية الفرنسية ( اسرار التاريخ )، عشية شروعه باعداد عمل حوله :سيدي الكاردينال سأقدم غدا برنامجا عنك .. كيف سأفسر عشقك للدولة ؟