10 Sep
10Sep


...........

كتب : أحمد عبد الحسين 

صباح الخير

كنت أدهش أيام شبابي للآيات التي تصف اختلاف الملائكة والخصومات في ما بينهم "ما كان لي من علمٍ بالملأ الأعلى إذ يختصمون"، أو الأحاديث التي تبيّن كيف أن الإمام يسوّي الخصومات بين الملائكة.

أحببت الفكرة؛ فكرة أن الملائكة، حتى الملائكة، تتنافر وتتخاصم وتختلف مع بعضها البعض. كنت أحدس أن تحتها درساً عميقاً، أعمق من مجرد الدرس الأخلاقيّ الذي يجعل من الاختلاف رحمة. هناك درس فكريّ جدير بالتأمل، ولم ألتقطه وقتها إلى أن قرأت ـ أيام شبابي أيضاً ـ الكتاب العظيم لأحمد الأحسائي "شرح الزيارة الجامعة الكبيرة" بأجزائه الأربعة.

كتب الأحسائي جملة من كلمتين فقط لتعليل تخاصم الملائكة وتنافرهم. قال: "لامتناع الترادف"! وما أعظمهما من كلمتين.

لا يوجد ترادف في الوجود، تماماً كما لا يوجد ترادف في اللغة. ما من شيء يطابق شيئاً، وما من كلمتين دالتين على معنى واحد أبداً. ولأن التطابق مستحيل فالاختلاف حاصل لا محالة. ما من موجود يتكرر. الله لا يكرر خلقه مرتين. كلّ شيء هو نسخة وحيدة من نفسه. هذه الحجارة لا يمكن أن تكون تلك، وهذه الموجة قد تشبه الموجة التي تليها لكنها ليست هي. الكون ساحة اختلاف كبرى. 

ولا أعرف، ولن أفهم أبداً كيف أتتْ للإنسان هذه الفكرة التافهة التي تقضي بأنّ الموجودات كلما تطهرتْ وصفت تماثلتْ وتطابقتْ. هذا وهم عظيم ينذر بالكوارث. الاختلاف مركوز في أصل الخلق. وما من شيئين متماثلين أبداً وإلا لكانا شيئاً واحداً.

هذه الفكرة بتمامها، وجدتها عند بول ريكور في "الإنسان الخطّاء" لكن بهيئةٍ أعمق، فهو يثبت الاختلاف وعدم الترادف لا بين شيئين أو كائنين وحسب، بل بين الإنسان ونفسه. لا يطابقُ الإنسانُ ذاته. وكلُّ ما يفعله هو القيام بتوسطات بين نفسه ونفسه. هذا الجرح السريّ هو منبع الخطأ لدى الإنسان وهو سبب عدم معصوميته الأبدية.

أغلب المتدينين ـ ومثلهم كلّ أصحاب العقائد ـ يسيرون عكس هذه الجادّة، يريدون فرض التطابق والترادف بأيّ ثمن؛ وغالباً ما يكون الثمن دماً ودموعاً.

الوجود واسع ورحمانيّ لأنه متقوّم بالاختلاف والتنافر.


أما العقيدة فضيّقة وعرة لأنها تطلب ترادفاً وتطابقاً لا وجود لهما إلا في عقولٍ ما شمّتْ رائحة الحقيقية أبداً.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن