12 Aug
12Aug

كتب : نعيم عبد مهلهل 

أبقى العثمانيون الكثير من تراثهم في البلد الذي كانوا يحتلونه لعدة قرون وأهم ما تركوه مفردات من لغتهم التركية وخصوصاً في المسميات وبعض العادات الاجتماعية، والكثير من العوائل التي تعود أصولها إلى الترك أو تثقفت في مدارس الأستانة، وأغلبهم صاروا وزراء ومدراء في الحكومة الوطنية الأولى في زمن الملك فيصل الأول، ثم تلاشت هذه المناصب بعد مجيء الحكم الجمهوري.

وقبل أن يطلق القيصر الروسي نيقولا الأول رؤيته اتجاه الوهن الذي أصاب دولة السلطان بقوله: (إن بين أيدينا رجلاً مريضاً جداً يجب الاتفاق على تقسيم ممتلكاته دون حاجة إلى استشارته).

 حتى قفز تفكير الألمان لإنشاء خط تجاري من سكة الحديد هو خط برلين - بغداد - البصرة. الذي لم يُكتبْ له النجاح، وكان في حلم السلطان أن يخترق الجنوب العصي والكثير الثورات بتقنية الألمان وحديدهم.

ويبدو أن الدان لم يرعب شيئاً فيهم والقطار المرتقب لم تصل إليهم سكّته، ولم تتجاوز أحلامهم سماء (أم شعثة) لتستمع إلى صوفيات هيرمان هيسه وتناقش غوته في حبه للشرق.

لقد تم وأد سكة الحديد ليس بسبب ثورات المعدان ضد الترك، بل بسبب زحف حشود الجنرال مود إلى بغداد، وفي قدرية عجيبة أنه كان يتخوف مثل الإسكندر أنه قد يصاب بلسعة بعوض حين يمر بأراضي الماء والقصب الممتدة بين البصرة وبغداد من جهة العمارة والمنتفك، وسيصاب بمرض البلهارزيا، ولكنه (مود) مات بمرض الكوليرا غير بعيد في المكان الذي مات في الإسكندر، وبذات المرض.

ومن إرث هزيمة الترك على أرض العراق أن العشائر حصلت على الكثير من العتاد الحربي للجيش العثماني في انسحابه المتكرر أو هزيمته أمام جيوش الإنكليز، ومن ضمنها (التفكه) وهو الاسم الشعبي الذي يطلق على البنادق، فكان يقولون: إن من حسنات نهاية زمن السلطان عبد الحميد، (ولا أدري لماذا اسم السلطان عبد الحميد بقي مرتهناً بسقوط دولة السلطان على الرغم أن الإمبراطورية العثمانية أفل مجدها في زمن سلطان غيره) أنهم استملكوا التفك ودخلت أول أنواعها إليهم والمسماة (أم عبية) وهي بندقية غير آلية توضع فيها طلقة واحدة وبواسطة الترباس تدخل في حجرتها، ثم تطرق بالزناد فتنطلق منها الرصاصة...

ثم توالت عليهم الأنواع الأخرى، إما يحصلون عليها غنائم في غزواتهم ومقاومتهم للترك والإنكليز أو يشترونها من تجار السلاح والمهربين وهي أنواع عديدة منها أم صفح أو المخروطة والباشية وأم خبر والطرمة (الكركه) أم ركبه والعكسة والدكسة والتركية والألمانية والإنكليزية والسلافية، وهي بنادق ذات حجرات وتحمل خمس إطلاقات.

أعود إلى قريتنا لأكتشف أنهم لا يحتفظون بالتفك في منازلهم، عكس قرى الريف الزراعي، وهذا يفسره شغاتي: بأن عدوهم دائماً يكون ضعيفاً، وأغلبهم من اللصوص الذين يأتون من أماكن بعيدة وفي رؤوسهم قلق أنهم يجهلون تضاريس المكان الذي يأتون ليسرقون.

ولهذا والقول لشغاتي وهو يمسك عصاه الغليظة ويلوح بها في الهواء: لم نكن نحتفظ باسم أي سلطان تركي أو شاه أعجمي في ذاكرتنا؛ لأن تفكنا هي هذه التواثي التي تقول أنت إنها من أمسكها جلجامش ليحمي بها نفسه من مخاطر طريق رحلته.

قصة التواثي وبنادق جيش عبد الحميد وخط سكة قطار براين بغداد... تظل في حلم الاشتياق إلى الصباح الرائق الذي كان شغاتي يمسك فيه (تفكته) الخشبية ويضربها على مؤخرة دوابه كي يوصلها إلى مكان قيلولتها، ثم يأتي ليباشر دوامه موظفاً في مدرستنا.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن