محاضرة الدكتور عامر حسن فياض
مساهمتي أُريد أنْ أُقسمها على ثلاث محطات:
المحطة الأولى: لديَّ بعض الانتباهات ذات الصلة بموضوع الجلسة ألا وهو (العلاقة الجدلية بين السيادة والمصلحة الوطنية العليا).
المحطة الثانية: هي بعض الأفكار السريعة، وأنا حريص على أنْ تفتح شهية العقل حتى وإنْ كانت تستفزه أيضاً، وهي كذلك ذات صلة بالموضوع.
المحطة الثالثة: هي إجابات سريعة عن الأسئلة الـ(7) التي وصلتني حول الموضوع.
الانتباهة الأولى: سؤال السيادة ثابت والأجوبة متغيرة
أبدأ بالانتباهات، وأقول في الانتباهة الأولى سؤال السيادة ثابت والأجوبة عليه متغيرة، وحتى نُزمكِن – إنْ صح التعبير – أطروحة السيادة أي نضعها في زمانها ومكانها، أقول إن السيادة نشأت في الرحم الفرنسي، والقابلة الماذونة لأطروحة السيادة كان المحامي والمفكر الفرنسي (جان بودان) عام 1576 عندما صاغها في كتابه الموسوم (كتب الجمهورية الستة)، صاغها لتكون هذه العبارة أو هذه الأطروحة معبرة ببساطة عن سيطرة، و قوة، وعن نفوذ بل عن سلطة، وهذه السلطة لابدَّ أنْ تكون واحدة موحدة، ولابدَّ أنْ تكون مطلقة تُقيد الجميع ما عدا الحكام، وهذه السلطة وهذه السيادة لا تقبل القسمة ولا التجزئة، هذه هي المواصفات التي حددها بودان للسيادة وأكد ضرورتها لمغادرة الواقع الذي أسميته الرحم الفرنسي، وكان واقعاً تعارضياً تصارعياً دامياً تم قتل ما يقارب 30 الف فرنسي بروتستانتي على يد الكاثوليك الفرنسيين، زمن الملك شارل التاسع عام 1572 سُميت بمذبحة (سان بارتيليمي)، هذا المفهوم الذي يريد أنْ تكون السلطة مطلقة والحكم مطلق غُلف بثوب فلسفي أخلاقي هو الكرامة الوطنية، الشرف الوطني، وغُلف أيضاً بثوب سياسي هو الاستقلال، ومثل ما قلنا الأجوبة على هذا السؤال متغيرة، وصولاً إلى زمننا ، زمن الرأسمالية المتوحش الذي نعيشه، وهو زمن ثقافة الخجل من السيادة الذي نعيشهُ تحت مبررات متعددة على رأسها الخشية من العودة إلى الحكم المطلق غير المقيد، والانفتاح، والعولمة، وأنَّ العالم قرية صغيرة، في حين أنَّ الغاية من هذا المفهوم في زمننا الحاضرسياسية، وأنَّ مناهضة السيادة تأتي كثقافة الآن لتبرير الهيمنة والتبعية للقوي ضمن إطار هذه الخارطة التي نعيشها. هذه الانتباهة الأولى وعنوانها (أنَّ سؤال السيادة ثابت والأجوبة التاريخية عليه متغيرة).
الانتباهة الثانية: التلازم بين الاستقلال والديمقراطية
الانتباهة الثانية، اليوم الرائج خطأً من يكون مع السيادة سيكون مع الأستبداد وسيكون مع الحكم المطلق، ومن يناهضها يُتهم بأنه مع التبعية ومع قبول هيمنة الآخر، وهذه المعادلة خاطئة، المعادلة الصحيحة هي معادلة التلازم بين الاستقلال والديمقراطية، اذ لا ديمقراطية من دون استقلال، ولا استقلال من دون ديمقراطية.
واذكر العقل السياسي العربي في عصر النهضة العربية أواخر القرن التاسع عشر، كان هذا العقل منشغلاً بأطروحة الاستقلال حتى إن كان من دون ديمقراطية، لاحقاً بعد زمن (الربيع العربي) الثقافة التي أخذت تُروج هي ثقافة الديمقراطية أولاً ، بغض النظر إنْ كان هناك استقلال أم لم يكن. هذه الانتباهة الثانية.
الانتباهة الثالثة: حوامل السيادة
السيادة بمفهوم التلازم بين الاستقلال والديمقراطية، و لابدَّ أنْ يكون لها حاملون، أيّ حوامل السيادة، من الذي يحمل هذه السيادة بهذا التوصيف؟ حامل السيادة هو فرد موصوف من المحكومين وهو المواطن، وجماعة موصوفة من الحكام وهم رجال الدولة، هؤلاء هم حملة السيادة اذا أردنا أنْ نتلمس سيادة لابدَّ وأنْ يكون لدينا فرد مواطن وليس فرد تابع أو فرد من الرعايا أو فرد من الزبانية، ويكون لدينا حكام يجب أنْ يكونوا بالأصل رجال دولة وكل رجل دولة سياسي وليس كل سياسي رجل دولة. وهذه الانتباهة الثالثة والأخيرة.
أفكار أخرى
أعود إلى بعض الأفكار، اعتقد أنَّ التمسك بالسيادة البودانية اليوم أمرٌ خاطئ، لأنه يشير إلى الاستبداد، وفي الوقت نفسه إلغاء السيادة كثابت متمثل بالاستقلال هو خطأ أيضا، لأنه إلى التبعية وقبول هيمنة الأجنبي، اعتقد أن الخطأ متولد من عدم فهم العلاقة بين أطروحتي الاستقلال والديمقراطية.
ينبغي بالفكرة الأساس أنْ لا يُنظر إلى السيادة وبالسيادة، وينبغي أنْ لا يُنظر إلى الاستقلالية من الخارج فقط، بل يُنظر إليها وبها إلى الاستقلالية من الداخل أيضاً، يعني أنَّ هناك بُعدين بالسيادة بُعد داخلي وبُعد خارجي، عندما نفهم السيادة بأنها تلازم بين الاستقلال والديمقراطية ومن دون ذلك الخارج سيكون غير مسؤول عن غياب الاستقلالية في بلد دواخله فارغة من السيادة ومن مستلزماتها فما هي مستلزماتها؟ ومستلزماتها أولاً أنْ تكون هناك دولة وليس كيان أو كيانات ما قبل الدولة، أيّ دولة تتمتع بوحدة القرار السياسي الداخلي والخارجي معاً، فاذا كانت قرارات الدولة لا تسري على دواخلها فكيف ستسري على خوارجها، وهذا يُبين أهمية أنَّ ننظر للسيادة من بُعدين داخلي يتصل بالديمقراطية، وخارجي يتصل بالاستقلال، في كل الأحوال عندما نُفكر ونعمل وفق الفهم البوداني في السيادة سنذهب بالعراق إلى الاستبداد والحكم الشمولي المطلق، وعندما نُفكر ونعمل بالسيادة وفق الفهم المعولم للسيادة سنذهب بالعراق إلى التبعية إلى المُهيمن الرأسمالي المتوحش، لذلك ومن هنا يأتي حرصنا على ضرورة التلازم بين الاستقلال والديمقراطية لنحافظ على السيادة التي نُنشدها ونرجوها.
لا سيادة للعراق مع....
أقول لا سيادة مع الفساد ونعرف الفساد أصبح ظاهرة وليس حالة، وأصبح مُمنهجاً لا عفوياً، وأصبح محمياً لا بل أصبح حامياً وهو الذي يحمي.
ولا سيادة مع المحاصصة لأنها لا تبني دولة بقدر ما تُعزز كيانات،
ولا سيادة مع الطائفية والجهوية الضيقة قومياً ودينياً ومذهبياً ومناطقياً،
ولا سيادة دون حصر السلاح بيد الدولة،
ولا سيادة مع الاستقواء بالأجنبي،
ولا سيادة دون احترام الدستور والألتزام بأحكامه حتى من قبل واضعيه يعني هناك ثقافة رائجة إنَّ من وضع الدستور ليس شرط يحترمه لأنه هو من وضع الدستور، ولكن الدستور عندما يُوضع لابدَّ أنْ يُحترم وأول من يحترمه هم واضعوه.
لا سيادة دون العدالة الاجتماعية ويعني التوزيع العادل للثروة.
لا سيادة دون اقتصاد انتاجي ويعني انتاج قوت باكتفاء ذاتي، وإنتاج دواء باكتفاء ذاتي، وإنتاج معرفة باكفاء ذاتي، وبالطبع يكون الانتاج نسبياً سواء بالقوت أم بالدواء أم بالمعرفة.
لا سيادة دون استقلال القضاء.
ولا سيادة لدولةٍ دون رجال دولة وهذا هو المهم ورجل الدولة مواصفاته معلومة
لابدَّ أنْ يكون تكميلياً لا تصفيرياً عندما يتولى منصباً عاماً،
لابدَّ أنْ يتمتع بثقافة الاستقالة لا الاستطالة،
لابدَّ وأنْ يعشق المستقبل ولا يكره الماضي،
لابدَّ أنْ يتفاعل مع المشكلات ولا ينفعل بها،
لابدَّ أنْ يقبل المختلف والمعارض لهُ،
ولابدَّ أنْ يؤمن بالتسوية لا بالتصفية،
كذلك لا سيادة مع العبث بالأمن العام إرهاباً أو جرائم منظمة.
أمّا المصلحة الوطنية فهي كل ذلك، وقد عرّفها الدكتور حميد مشكوراً، وأنا أقول أنَّ المصلحة الوطنية هي كل ذلك، هي مواطنة، و أمن، هي حكم صالح وليس فاسد، و احترام وسيادة للقانون، هي إنتاج غير عقيم، و شعب ميسور، و تعددية سياسية منظمة بقانون، تلك هي المصلحة الوطنية.
العراق وحمل ثقل السيادة
فيما يتعلق بحوامل السيادة التي تحدثت عنها مسبقاً، نأتي إلى العراق، إنَّ واقع العراق – ولنكن صريحين – العراق ليس لهُ القدرة حالياً على حمل ثُقل السيادة ولكن ليكن لهُ موقف على الأقل هذا الموقف متولد من ضرورة وجود خطاب سياسي موحد لا مبعثر، وأقصد خطاباً سياسياً خارجياً موحداً لأنَّ خطابنا السياسي الخارجي مازال مبعثراً، وهذا الخطاب ينبغي أنْ يسعى وفق القدرات العراقية، أنْ يسعى لأن تتحكم فيه معادلة تقوم على أساس تحييد الخصوم وكسب الأصدقاء، وعدم النأي بالنفس عمّا هو عادل يخدم قضايا تحرر الشعوب بما فيها الشعب العراقي.
ضرورة أدلجة المصلحة الوطنية
السيادة عندما نُسلمها بيد (بودان) أو وفق الفهم البوداني ستكون أخلاق بالفلسفة واستبداد وحكم صالح بالسياسة، وعندما نُسلمها بيد الرأسمالية المتوحشة ستكون عديمة الأخلاق بالفلسفة وتبعية للآخر بالسياسة، هنا علينا أنْ نعمل ونُفكر معاً من أجل مفهوم وعمل سيادي مستقبلي بمعنى يقوم على ضرورة التلازم بين الديمقراطية والاستقلال، وهذه مسألة ربما سأهتم بها جداً وأنا أُطالب بأدلجة المصلحة الوطنية وجعلها أيديولوجية أفضل من كل الإيديولوجيات لأنَّ الإدلجة كما نعرفها جيداً هي انحياز، واعتقاد، وإيمان فلا ضير ولا ضرر للانحياز للمصلحة الوطنية ووضعها في دائرة الأفضلية السيادية، هنا أقول لا يجوز الحياد أو النأي بالنفس عندما تكون السيادة الوطنية معرضة للضرر، وفي الإدلجة هناك اعتقاد فلا ضير في أنْ تكون المصلحة الوطنية معتقداً ونضعه في دائرة الأفضلية السيادية، وفي الإدلجة إيمان فلا ضير ولا ضرر في أنْ تكون المصلحة الوطنية إيماناً ونضعه في دائرة الأفضلية السيادية.
السيادة مشروع تحرر
أخيراً في هذا الجانب وهو جانب الأفكار، السيادة مشروع تحرر وطني من قيود الخارج والداخل على الوطن والمواطن، هذه هي السيادة أو هذا هو المفهوم المستقبلي حتى لا نخجل من السيادة ولا نذهب نحو المفهوم المعولم للسيادة، وعلينا أنْ نفهمها على أنها مشروع تحرر وطني وتحرر من قيود الخارج والداخل على رقبة الوطن والمواطن، وهناك مثال واضح وهو كيف يطلب مني الوطن أنْ أكون أسداً في التعامل مع الآخر وأنا خروف في بيتي؟. هذا ما يتعلق بالأفكار الخاصة بالموضوع.
أسئلة الملتقى حول السيادة والمصلحة
أمّا فيما يتعلق بالأسئلة الـ(7) والأجوبة السريعة عليها،
في الأسئلة الثلاث الأولى من يحدد مصلحة الدولة؟ ومن يحققها؟ وما أدواتها؟
الجواب: أقول عندما تكون هناك دولة نستطيع أنْ نتحدث عمّن يحدد، ومن يحقق، وما الأدوات ولكن رغم ذلك الذي يحدد المصلحة العليا هي سلطة تشريعية، وسلطة تنفيذية، والأدوات هي دستور وقوانين ومؤسسات. هذا جوابي السريع عن الأسئلة الثلاث الأولى.
- هل أنَّ تحقيق المصلحة الوطنية هو تحقيق السيادة أم تحقيق السيادة هو تحقيق المصلحة الوطنية؟
الجواب: عندما تكون الاستقلالية هي جوهر السيادة فإن الاستقلالية ستكون درعاً للمصلحة الوطنية، السيادة أولاً فهي الدرع فلا مصلحة وطنية دون التحصن بالسيادة.
-السؤال الخامس، تباين مفهوم المصالح الوطنية عند قوى السياسية ؟
الجواب: هذه المسألة مهمة، فنحن نرى العالم الذي يتمتع بالسيادة، ودول متمتعة بسيادتها حتى مع المتغيرات الجديدة، نلاحظ عندما يتعلق الأمر بالمصلحة الوطنية العليا باستحقاق سيادي لا يُسمح أبداً بالخلاف أو الإختلاف بين القوى السياسية إلا عندنا اذ لا أولوية لاستحقاقات وطنية، كل شيء مختلف عندنا، في حين هذه المسألة غير موجودة في العالم، أي قضية اعتداء دولة لا يجوز السكوت أو الميل إلى المعتدي، لأنَّ هذا استحقاق سيادي وطني لابدَّ أنْ يكون موضع اتفاق وليس موضع تباين ولا موضع إختلاف، ربما بالأدوات أيّ أدوات تحقيق المصلحة الوطنية ليس خلافاً بل اختلافاً بين القوى والفرقاء، ولكن في استحقاق وطني يتعلق بالمصلحة الوطنية وهو استحقاق سيادي لا يجوز الإختلاف والتباين.
- السؤال السادس، الترابط والتشابك بين المصلحة الوطنية العليا للعراق مع المصالح الإقليمية والدولية، هل هو خرق للسيادة؟
الجواب: هنا يجب أنْ نُفرق بين التشابك والاشتباك، نحن نعيش في عالم وفي هذا العالم يجب أنْ لا نعيش على طريقة (روبنسون روسو) منعزلين، لابدَّ وأنْ يكون هناك تعامل مع العالم هذا التعامل لنجعل منه تشابكاً لا إشتباكاً، التشابك نعم ليس خرقاً للسيادة، وهناك تداخل وهناك تدخل بالمصالح، وعلينا أنْ نميّز بين التداخل بالمصالح والتدخل في المصالح العليا.
-السؤال السابع والأخير، الذي يتعلق بصنّاع القرار،
-الجواب: ينبغي على صنّاع القرار أنْ لا يجعلوا من المصالح العليا موضع خلاف وإختلاف ولا ضير بالاجتهادات المختلفة لصنّاع القرار فيما بينهم لتحقيق المصالح العليا، ويعني الهدف ثابت، والمصالح العليا ثابتة، وهناك أدوات متعددة ولكن هذه الأدوات لا يمكن أن تكون على أساس أنني أقبل بأنْ يكون الآخر هو المحقق لمثل هذه السيادة.
أنا أكتفي بهذا القدر وسوف أستفيد تماماً من المداخلات والإضافات التي سوف أستمتع بها من قبل الأخوة المشاركين، شكراً جزيلاً.
_______________________
* هذه الندوة .. تحمل عنوان: ( جدلية العلاقة بين سيادة الدولة والمصلحة الوطنية) .. وكانت الندوة الافتراضية الأولى .. ضمن سلسلة ندوات مترابطة ومتكاملة ومتواصلة.. جرت و كل منها تعتمد على مخرجات الندوة التي سبقتها.. وتتكامل معها.. وصولاً إلى الإجابة على التساؤلات التي أثارها كتاب (أزمة العراق سيادياً ). الندوة ــ بسبب الأوضاع الصحية وجائحة كوروناـ تجري عبر الانترنت من خلال برنامج زووم، وقد بثّت الندوة مباشرة على صفحات ملتقى بحر العلوم للحوار وصفحة معهد العلمين للدراسات العليا على الفيس البوك..بتاريخ 2 اذار 2021