✍تحرير/ د.عقيل الخزعلي ــــــــ رئيس مجلس التنمية العراقي
المقدمة:
على مدار التاريخ، لعب الموقع الجغرافي للعراق دوراً مزدوجاً بين كونه نعمة ونقمة. يقع العراق في قلب الشرق الأوسط ويحده من الشمال تركيا، ومن الشرق إيران، ومن الجنوب السعودية والكويت، ومن الغرب الأردن وسوريا. هذا الموقع الذي يربط آسيا بأوروبا ويطل على الخليج العربي، جعله حلقة وصل تجارية وحضارية، ومركزًا مهمًا في الخريطة الجيوسياسية للمنطقة. في المقابل، جلب الموقع تحديات سياسية وأمنية واجتماعية جعلت منه ساحة تنافس وصراع بين القوى الإقليمية والدولية. عُرف هذا التحدي بـ “لعنة الجيوبوليتيك”، حيث يُصبح الموقع الاستراتيجي عبئاً يستجلب الأطماع والتدخلات الخارجية بدلاً من كونه مصدر قوة وازدهار. مع ذلك، يستطيع العراق، عبر اتباع استراتيجية شاملة، تحويل هذه “اللعنة” إلى فرصة استراتيجية تساهم في استقراره وتقدمه. يتناول هذا المقال كيفية تحقيق ذلك، بداية من فهم تحديات “لعنة الجيوبوليتيك”، مروراً بتحليل عناصر القوة التي يمكن استثمارها، وصولاً إلى وضع خطة استراتيجية لتحقيق تحول فعلي ومستدام.
اولاً: الإطار النظري والمدخل المفاهيمي
أ. الجيوبوليتيك:
يعود مصطلح “الجيوبوليتيك” إلى الكلمتين الإغريقيتين “جيو” (Geo) التي تعني الأرض، و”بوليتك” (Politics) التي تعني السياسة.
ويشير هذا المفهوم إلى دراسة تأثير الموقع الجغرافي لدولة ما على سياساتها الداخلية والخارجية وعلى مكانتها في النظام الدولي.
يُعنى الجيوبوليتيك بفهم العلاقة بين القوة السياسية والموقع الجغرافي للدولة، والعوامل التي تجعل هذا الموقع إما مصدر قوة واستقرار، أو سبباً للتحديات والصراعات.
ب. اللعنة المزمنة:
يشير مصطلح “اللعنة المزمنة” أو “لعنة الجيوبوليتيك” مصطلح يشير إلى التحديات المستمرة التي تواجهها بعض الدول بسبب موقعها الجغرافي أو مواردها الطبيعية. تتمثل هذه اللعنة في أن الموقع أو الموارد التي يمكن أن تكون مصدر قوة للدولة تتحول في حالات معينة إلى مصدر ضعف وجذب للتدخلات والصراعات.
ج. الفرصة الاستراتيجية:
تُعرَّف “الفرصة الاستراتيجية” بأنها الإمكانية المتاحة لدولة معينة لاستغلال موقعها الجغرافي ومواردها الطبيعية والبشرية بطريقة تعود بالنفع على تحقيق أهدافها الوطنية. وتعني القدرة على تحويل التحديات التي تفرضها الجغرافيا أو الظروف الخارجية إلى نقاط قوة تساهم في تعزيز مكانتها الدولية والإقليمية.
ثانياً: الجغرافيا العراقية وتحدياتها
يتمتع العراق بموقع جغرافي فريد، إذ يقع في منطقة تكتسب أهمية خاصة نظراً لموقعها الرابط بين الشرق الأوسط وآسيا وأوروبا، علاوة على ذلك، يمتلك العراق احتياطيات نفطية ضخمة، حيث يحتل المرتبة الخامسة عالمياً من حيث احتياطي النفط، ما يجعله دولة ذات تأثير محتمل على أسواق الطاقة العالمية.
ومع هذه المزايا، تبرز عدة تحديات مرتبطة بالجغرافيا العراقية:
ثالثاً: لعنة الجيوبوليتيك وتأثيرها على العراق
لعنة الجيوبوليتيك هي مصطلح يُستخدم لوصف التحديات التي يواجهها بلدٌ ما بسبب موقعه الجغرافي، وفي حالة العراق، يمكن تقسيم تأثيرات هذه “اللعنة” إلى عدة جوانب:
رابعاً: الاستراتيجية الشاملة لتحويل اللعنة إلى فرصة
يمكن للعراق، من خلال اتباع استراتيجية متكاملة، أن يغير من دوره كضحية للتدخلات إلى لاعب رئيسي قادر على تحقيق مصالحه، وضمان استقراره، وتعزيز دوره الإقليمي والدولي. تعتمد هذه الاستراتيجية على عدة خطوات محورية:
أ. تبني سياسة خارجية متوازنة ومستقلة:
2.1- تبني دور الوسيط في حل النزاعات الإقليمية، ما يرسخ مكانته كدولة فاعلة تعتمد على الحوار بدلاً من المواجهة. 2.2- بناء علاقات قوية مع كافة القوى الكبرى والإقليمية، بما فيها الولايات المتحدة، روسيا، الصين، ودول الجوار، لضمان عدم تحيزه لأي طرف على حساب آخر.
ب. تحويل العراق إلى مركز للتجارة والطاقة:
2.1- بناء شبكات طرق حديثة وخطوط أنابيب لربط دول الخليج بتركيا وأوروبا، ما يساهم في تحقيق عوائد مالية من العبور وزيادة العلاقات الاقتصادية مع دول الجوار. 2.2- إقامة مناطق تجارة حرة ومراكز تبادل تجاري على الحدود مع الدول المجاورة، مما يعزز من مكانة العراق كمركز تجاري رئيسي ويزيد من العوائد الاقتصادية.
ج. الاستفادة من التنوع الثقافي والديني لتعزيز السلم الأهلي:
2.1- تشجيع السياحة الدينية والثقافية، حيث يمتلك العراق مواقع دينية وتاريخية تستقطب الزوار من مختلف الدول، مما يعزز الاقتصاد ويشجع على التقارب الثقافي. 2.2- تعزيز قيم التسامح والتعايش عبر الإعلام والنظام التعليمي، بما يسهم في بناء مجتمع متماسك يصعب على القوى الخارجية استغلاله.
د. تنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على النفط:
1. المبدأ: بناء اقتصاد متنوع ومستدام يساهم في تقليل تأثير تقلبات أسواق النفط العالمية على الاقتصاد العراقي.
2. التنفيذ:
2.1- دعم الزراعة والصناعة وتكنولوجيا المعلومات كمصادر جديدة للنمو الاقتصادي، وتشجيع الاستثمار المحلي والأجنبي في هذه القطاعات.
2.2- تعزيز ريادة الأعمال والمشاريع الصغيرة والمتوسطة، مما يسهم في خلق فرص عمل وتحقيق نمو اقتصادي مستقل عن النفط.
ه. تعزيز القدرات الأمنية وبناء جيش وطني قوي:
2.1 تطوير برامج تدريبية حديثة للقوات المسلحة وتزويدها بتقنيات متطورة، وتوحيد كافة القوى العسكرية تحت سلطة الدولة، والانتقال الى بناء منظومة استخبارات إستباقية ذكيّة.
2.2 التعاون مع الدول المجاورة لمكافحة الإرهاب، وإقامة علاقات أمنية متوازنة تحمي سيادة العراق وتعزز من استقراره.
و. الانخراط في المبادرات الإقليمية للتعاون الاقتصادي والسياسي:
2.1- الانضمام إلى مشاريع البنية التحتية العالمية الكبرى، وتوسيع التعاون الاقتصادي مع دول الجوار والدول الإقليمية المهمة. 2.2- المشاركة في مبادرات التعاون الإقليمي في مجالات البيئة والأمن الغذائي والطاقة، مما يعزز من دور العراق كعضو فعال في المنطقة.
بينما لا يمكن للعراق تغيير موقعه الجغرافي، يمكنه تغيير الطريقة التي يستغل بها هذا الموقع. أن “لعنة الجيوبوليتيك” ليست قدراً محتوماً؛ بل يمكن تحويلها إلى فرصة استراتيجية من خلال تبني سياسة خارجية متوازنة، وتنويع الاقتصاد، وبناء قوة عسكرية وطنية، والانخراط في مشاريع إقليمية تعزز التعاون.
بذلك، يمكن للعراق أن يصبح قوة مؤثرة في المنطقة وأن يحقق استقراراً وازدهاراً يستفيد منه شعبه ويدعم السلام في المنطقة.