22 Jun
22Jun

كتبت : د. عامرة البلداوي (باحثة وأكاديمية من العراق)

 يتبنّى الدكتور علي المؤمن فكرة ترشيد شرط الأعلمية، لكي لايكون محصوراً ومعنياً بالفتوى فقط، وكما أسماه ((الكفاءة العلمية الفتوائية))، ويحدد في كتابه «الاجتماع الديني الشيعي» رأيه في شرط الأعلمية، بقوله: ((وُضع شرط الأعلمية ضمن شروط مرجع التقليد، ليكون دليلاً عقلياً لفرز المرجع الأكبر المتصدي، وحل مشكلة تعدد المرجعيات المتصدية لزعامة الحوزة والشأن العام، والحيلولة دون تشتت قرار الحوزة والمجتمع. ونظراً لاختلاف المعايير وتفاوت المخرجات؛ فإنّ الأعلمية تعد أمراً نسبياً، وإحرازها مستحيل، وبالتالي؛ فإنّ أهل الخبرة يختارون المرجع الأعلم بحسب قناعاتهم، وهي قناعات بشرية خاصة، بل أنّ متطلبات مأسسة المرجعية تتطلب إضافة معايير في الأعلمية تتجاوز الفقه والأصول، ومن بينها الأعلمية في وعي مقاصد الشريعة ونظام الأسلام العام، والأعلمية في تشخيص المفاسد والمصالح وتشخيص الموضوعات ذات العلاقة بالشأن العام)).

  ابتداءً؛ إنّ مفردة (ترشيد) قد لاتكون هي الكلمة المناسبة لهذا المقام، لما بيّنته المعاجم من المعنى اللغوي لكلمة (ترشيد)، وأما حصر الأعلمية بالفتوى فقط؛ فهو يتنافى مع الرأي القائل بأن المرجعية هي ((ولاية الفقيه في القضاء، وولاية الفقيه في الأمور العامة، المقصود بها الأمور التي ترتبط بها مصالح العباد، فضلاً عن الحسبة. كل هذه الموارد تتطلب فتوى، وعليه لابد من توفر شرط الأعلمية)). 

    لقد دافع الدكتور علي المؤمن بقوة عن مقترحه باستبعاد شرط الأعلمية، ووضع الافتراضات والدواعي والبراهين، لصعوبة إحراز الأعلمية، مع أن تعريفها الذي أشرنا اليه أعلاه واضح ومحدد، هذا فضلاً عن أن المرجع الأعلى هو نائب الإمام المعصوم، ولابد أن يتوافر لنائبه هذه المنزلة العلمية بالفقه والأصول، والقدرة على استنباط الحكم الشرعي، وهذه القدرة والمكانة لاتخفى على المراجع المعاصرين له، ولايتطلب الأمر تضعيف الوسائل المتبعة في إحراز الأعلمية، وأهمها شهادة أهل الخبرة. وهنا أُحيلكم الى مراجعة دقيقة في كيفية إحراز أعلمية المرجع، وكيف أنها لاتختلف بشيء عن وظيفة مجلس أهل الخبرة الذي اقترحه الدكتور المؤمن.


ويذكر الدكتور علي المؤمن في مجال إمكانية تعدد المراجع، ممن اجتمعت فيهم الشروط المثبتة في كتب الفقه والحديث في آن واحد، ويركز على (الفقاهة والعدالة)، بينما يستبعد الأعلمية ويعتبرها غير مشروطة بجعل الولاية للفقيه، بل يؤكد على تحقق الولاية لكل فقيه. ولذا؛ فهناك ضرورة لحصول إجماع نسبي لدى أهل الخبرة في حوزة النجف أو قم، لطرح المرجع الأعلى، وفق شرائط معينة، بإضافة شرطي الكفاءة والمقبولية العامة، ليكونا شرطين مرجِّحين، مضافين الى الشرطين الأساسيين (الأجتهاد والعدالة)، دون الإشارة الى الأعلمية كأحد الشروط.


     إن هذه الاستعاضة عن شرط الأعلم بالأصلح أو الأكفأ وصفات أُخر، يبدو تشخيصها أكثر صعوبة من تشخيص الأعلمية، مثل: المقبولية العامة و((تأثير سيكولوجية الفقيه على صناعة الفتوى وأدارة الشأن العام))؛ تعيدنا الى الأستنتاج بأن الكاتب يميل لاستخدام المصطلحات الحديثة والمتداولة في عصرنا، لكي تكون أكثر مقبولية، وتتناسب مع لغة هذا العصر، ولكن هذا لايعني الابتعاد عن الأصل في الموضوع، وهو الدور الرئيس للمرجع الأعلى، وهي الولاية على الفتوى والقضاء والحسبة التي ترتكز على شرط الأعلمية.

 وقد أورد الدكتور علي المؤمن ضمن مقترحات مأسسة المنظومة المرجعية: ((تقنين سياقات علاقة المرجعية العليا بولاية الفقيه ومرجعيات التقليد والفقهاء في البلد نفسه وفي البلدان الأخرى في إطار منظومة مرجعية واحدة)).

وتعليقاً على هذا المقترح للمأسسة التي تعبر كل الحواجز التي يصعب عبورها؛ ففي الوقت الذي نقدر حرص الدكتور علي المؤمن في أن لايكون هناك تشتت في القرار القيادي للمرجعية الشيعية، ومن أجل ستراتيجية شيعية موحدة، ولكن هذا لايتم من خلال تجاوز متبنيات المدرسة الفقهية لكل مرجعية؛ فالمرجع السيستاني هو على رأي أُستاذه السيد الخوئي، الذي ذكر في كتاب الاجتهاد والتقليد: ((وقد ذكرنا في الكلام على ولاية الفقيه من كتاب المكاسب أن الأخبار المستدل بها على الولاية المطلقة قاصرة السند أو الدلالة، وتفصيل ذلك موكول إلى محله، نعم يستفاد من الأخبار المعتبرة أن للفقيه ولاية في موردين وهما الفتوى والقضاء، وأما ولايته في سائر الموارد فلم يدلنا عليها رواية تامة الدلالة والسند))، وفي صراط النجاة يقول السيد الخوئي: (( أما الولاية على الأمور الحسبية كحفظ أموال الغائب واليتيم، إذا لم يكن من يتصدى لحفظها كالولي أو نحوه، فهي ثابتة للفقيه الجامع للشرائط، وكذا الموقوفات التي ليس لها متولٍّ من قبل الواقف، والمرافعات، فإن فصل الخصومة فيها بيد الفقيه، وأمثال ذلك، وأما الزائد على ذلك فالمشهور بين الفقهاء عدم الثبوت، والله العالم)). 

 القصد من سرد هذه التفاصيل لتبيان أن رأي المرجع الأعلى السيد علي السيستاني من رأي السيد الخوئي في ولاية الفقيه؛ فكيف يمكن دمجهما بمنظومة واحدة، بل أننا نجد أن التنوع، وحتى الأختلاف بين المراجع، ليس حالة سلبية، بل العكس؛ فقد كان سبباً في ازدهار الحركة الفكرية في النجف أو قم، والتي انتجت مئات بل آلالف أمهات الكتب، في مجالات علمية دينية متعددة، كالفقه والأصول والكلام والمنطق والرجال وغيرها.

كلمة الختام:   

إنّ كلّ ما ورد في هذه الورقة، ما هو إلّا حوار مع الدكتور علي المؤمن، شارك فيه عدد من الكتّاب المرموقين الآخرين، الذين تشغلهم نفس القضايا، وتجمعهم نفس الهموم، ويتقاسمون التبجيل والحرص والحب والاهتمام بالحوزة العلمية الدينية في النجف الأشرف. ومع أني أكتب هذه الحروف لأختم الورقة، إلّا أنّ عيني كانت على الفصل الثامن (إشكاليات الهوية الشيعية)، الذي استعرض فيها الدكتور علي المؤمن تاريخ التشيع وأوضاع الشيعة في الخليج والعراق وايران ولبنان وآذربيجان والهند.


إن التنوع في «الاجتماع الديني الشيعي» ليس في البلدان ذات الكثافة الاجتماعية الشيعية فقط، بل حتى في داخل البلد الواحد، وبالرغم من هذا الثراء الشيعي الاجتماعي، الذي يستدعي الكثير من جهود الباحثين، لتسليط الضوء عليه والافتخار به كقيمة ثقافية واجتماعية، إلّا أنّه في العراق، ونتيجة السياسات العدوانية لحكومة البعث القمعية، التي عانى منها الشيعة تحديداً؛ فإنّ هذا الثراء في السلوك والثقافات والمشاعر والاهتمام والممارسات؛ لم يجد حظه من الدراسة؛ فهو لايزال موضوعاً جديداً ومشوقاً للباحث في الاجتماع الشيعي بكل تفاصيله وتركيباته.


لذلك؛ كنت أتمنى لو أن الدكتور علي المؤمن توسّع في وصف تلك الأوضاع في المجتمع الشيعي العراقي، الذي تركّز في مساحة جغرافية من العراق، هي الوسط والجنوب، ولو أنه وصف مجتمع الأقليات الشيعية في مناطق غرب وشمال العراق، التي عانت من الإهمال والإقصاء، وما زالوا يحلمون بالخلاص من ذكريات ما قبل 2003؛ حيث أمعن النظام البعثي في تحجيم الشيعة والسيطرة عليهم، وعزلهم جغرافياً، ولهذا فقد استحدث محافظة صلاح الدين ذات الأكثرية السنية، واقتطع ثلاثة أقضية، كل سكانها شيعة، وضمّها إليها، وهي بلد والدجيل من محافظة بغداد، وطوزخورماتو من محافظة كركوك، وبهذا خنق هذه الأقضية التي عانت بعد 2003 من التفجيرات الإرهابية، كما طبّق البعث السياسات نفسها التي تعتمد خنق الجغرافيا ذات الأكثرية الشيعية، بسياج أو ممر سني متشدد، وهو ما حصل في محافظة كربلاء باقتطاع ناحية النخيب وضمّها الى محافظة الأنبار، وهي اليوم تابعة الى قضاء الرطبة في محافظة الأنبار. وما زالت تعيش الأقضية الشيعية المقتطعة الثلاثة، وضعاً أمنياً هشاً، وقلة خدمات، ومشاركة سياسية ضعيفة لاتحقق لها التوازن المطلوب بعد التغيير.


في جانب آخر؛ نجد في محافظات واسط وديالى وكركوك ونينوى، أقليات شيعية ذات تنوع قومي متعدد: فيليين، عرب، أكراد، تركمان وشبك، ولكل منهم ثقافته الخاصة وأمنياته وأحلامه التي لم تتحقق. وعند استطلاع رأي هذه المجتمعات، ودراسة أوضاعهم، خاصة في فترتي ما قبل وما بعد 2003، فضلاً عن استهدافهم من قبل الهجمات الإرهابية للقاعدة وداعش والبعث، خاصة في كركوك ونينوى، سيكشف عن فجوات الشعور بالأمن والاستقرار، والمشاركة السياسية ومواقع صنع القرار، وربما هي دعوة لإنتاج كتاب آخر، يسلِّط الضوء على هذه الأقليات الشيعية المتناثرة في جغرافيا الوطن.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن