⦁ لم يمثل زلزال التاسع من نيسان 2003م إسقاطاً لنظام سياسي فحسب، بل هو سقوط لنموذج دولة نخرها الإستبداد والتمييز والحروب والمغامرات على يد الأنظمة المتعاقبة على تاريخ الدولة العراقية وبالذات نظام البعث 1968-2003م، وهذا ما يفسر التداعيات الكبرى للأزمة العراقية التي بدأت في التاسع من نيسان 2003م ولم تنته بعد.
⦁ زلزال 2003م كان لحظة كاشفة لإنهدام شامل للدولة العراقية بسبب سوء أنظمتها وفشل مناهجها وتخلف سياساتها وانقسام أمّتها،.. فأتت لحظة 2003م لتكشف عمق الإنهدام، إنهدام عمودي على مستوى السلطة المختَطِفَة لحكم الدولة، وأفقي على مستوى الأمّة المشكّلة للدولة.
⦁ للتأريخ، كان لدينا مسمى دولة، فأطوار الدولة العراقية –وبالذات خلال عقود حكم البعث- كانت أطوار حكم سلطوي استبدادي متلبس بالدولة، لم تستند الى فكرة الدولة ووظائفها بل كانت سلطات مُبتَلِعَة للدولة، ولم تنتج جوهرها الوطني المدني المؤسسي القائم على وفق أسس المواطنة والعدالة والتعايش والتنمية، ولم تنجز شروط تكاملها الوحدوي والسيادي على وفق الخصوصية الوطنية والسلم الإقليمي،.. لذا يمكن القول أن للدولة العراقية أزماناً وليس تأريخاً، أزمنة مستنسخة من تجارب حكم تتمحور حول السلطة المطلقة المبتلعة للدولة، وليس تأريخ دولة متراكم من تجارب حكم وطني عادل ورشيد وعقلاني.
⦁ عدم إنجاز الدولة على وفق شروطها الطبيعية واشتراطاتها البنيوية أدى الى تحوّلها إلى مشروع سلطة مجردة متمردة ومحتالة على بنى ووظائف الدولة، وأدى إلى انتاج دولة اللا أمّة، وأمّة اللا دولة،.. أمّة ودولة العصبيات والعصبويات والعصابات المدمرة للمجتمع والمدنسة للدولة والخاطفة للوطن.
⦁ كي لا تنهدم، تحتاج الدولة إلى رؤية فلسفية قيمية واقعية غير افتراضية أو واهمة أو زائفة، وتحتاج إلى سياقات دستورية وقانونية ومؤسساتية حاكمة ومُحتَكم إليها، وتحتاج إلى نخب وقوى وطنية مسؤولة قادرة على الإلتزام والإلزام بفعل واستحقاقات الدولة،.. ولكي لا تُختطف، تحتاج الدولة إلى مواطن ومواطنية فاعلة وناقدة ومثابرة وملتزمة، وتحتاج إلى منظومة حقوق وواجبات تضبط إيقاع وأداء الحاكم والمحكوم، وتحتاج إلى ثقافة مدنية وتنمية مستدامة، وتحتاج إلى مجتمع وطني يستند المواطنة كلازم لتشكيل الجماعة الوطنية بعيداً عن الروابط الأثنية أو الطائفية أو الجهوية الممثلة للهويات الفرعية، وتحتاج الى الديمقراطية كلازم لإنتاج السلطات وإدارة الخلاف وتحقيق المصالح، وتحتاج الى التعايش كلازم لقبول الآخر وحقه الإنساني والوطني في العيش دونما تمييز أو إقصاء. وفيما لو فشلت الدولة بتأمين حاجاتها البنيوية والوظيفية والنخبوية هذه.. فسيفشل مشروعها، ويكون بقاؤها أزمة، وانهدامها أزمة، وإعادة تشكليها أزمة.
⦁ كشف زلزلال 2003 أنّ طبيعة الأزمة العراقية أزمة دولة منذ تأسيسها وليست أزمة تغيير نظام سياسي بآخر، والأزمات المتوالية كافة منذ التاسع من نيسان في مظهرها الأمني والسياسي والمجتمعي والإقتصادي، وفي طبيعة تداخلاتها الإقليمية والدولية.. تؤكد حقيقة أنّ الأزمة العراقية أزمة دولة، تعيش مأزق البقاء ومأزق الإنهدام ومأزق إعادة التشكيل.
⦁ بغض النظر عن النتائج التي ترتبت على طريقة إسقاط نظام البعث على يد الفاعل الأميركي الذي لم يتفاعل مع التغيير على وفق واقع انهدام الدولة، وبغض النظر عن التركة الهائلة للإستبداد والدمار الي أنتجه النظام البعثي، وبغض النظر عن طبيعة الممانعات والتحديات الداخلية والإقليمية والدولية الهائلة المتأتية من القوى المتضررة من التغيير والتي نقلت معاركها للداخل العراقي، وبغض النظر عما أفرزته طريقة الإدارة العراقية لملفات الإنهيار من إرهاب وجريمة وفوضى ألقت بظلالها على البديل المراد انتاجه.. إلاّ أنّ ما تم إنتاجه –بنيوياً- بعد التغيير كان تأسيساً لحزمة أزمات مستحدثة زادت أزمة الدولة تأزماً.
⦁ إنَّ طبيعة المنظومة السياسية المركبة على وفق العملية السياسية كرؤى وسياسات وأجندات بعد 2003م كشفت عن حجم الأخطاء والخطايا التي أوقعت التجربة العراقية الجديدة في دوامة الأزمات المستنسخة والمتناسلة، حتى غدى كل شيء أزمة: هوية الدولة أزمة، شكل نظامها السياسي أزمة، الإنتماء والولاء والتعايش والتماسك الوطني أزمات، إدارة السلطة وتوظيف الثروة أزمات وأزمات، الدستور والقوانين والثقافة أزمات وأزمات وأزمات،.. لقد جذّرت هذه الأزمات خطر الإنهدام الكلي لبنية المجتمع والدولة.
⦁ قصور الرؤية في الوعي والتخطيط والإدارة لطبيعة الأزمات العراقية كأسباب وحواضن وتداخل إقليمي دولي، وما يتوجب عمله لإنتاج البديل.. رهن البلاد لإحتمالات الإنهدام أكثر فأكثر. فلم تدرك القوى التي أسقطت الدكتاتورية الصدامية -أجنبية ووطنية- حجم التأثيرات السلبية العميقة التي تركت آثارها على بنية المجتمع والدولة طيلة عهود الدولة العراقية في القيم والسياسة والإقتصاد والثقافة والهوية، ولم تع ما معنى الإنتقال من بنية حكم استبدادي مطلق الى ديمقراطي تعددي مفترض، ومعنى الإنتقال من المركزية السياسية والإقتصادية المفرطة الى اللامركزية أو الفدرالية، ومعنى التحول من نمط الدولة الأيديولوجية والبطرياكية والأبوية الى الدولة المدنية المؤسساتية، ومعنى تغيير الفضاء الجيوسياسي للدولة وتأثيراته الإقليمية والدولية،.. لقد ترجمت العملية السياسية -كمرتكزات وسياسات وأجندات- قصور الرؤية وتواضع الفكر وتخلف الإلتزام وضحالة التخطيط والإدارة الاستراتيجية المعنية بإنتاج الدولة الجديدة الخارجة تواً من محنة الإنهدام.
⦁ نعم، ورثنا في 2003م فشل مشروع الدولة سياسياً واجتماعياً وتنموياً وسيادياً، وانهدام بُناها بفعل الإستبداد والحروب،.. ولكن قصور الرؤية وسوء التخطيط وتخلف القيادة أعاد إنتاج أزماتها المزمنة وأدخلها في نفق أزمات جديدة أجهضت البديل على يد العملية السياسية ذاتها، لتعيد إنتاج محنة إنهدام الدولة بلون جديد!!
⦁ لقد أفرزت العملية السياسية تضخم الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية، وغلبة نهج السلطة على حساب نهج الدولة، وشرّعت لإنقسام السلطات بدل تقاسمها جراء المحاصصات الطائفية والأثنية، وأفرزت تضارب رؤى وإرادات ومشاريع إعادة إنتاج المجتمع والدولة بفعل اختلاف أجندة الفرقاء السياسيين، وأدت الى ابتلاع الأحزاب للسلطة والدولة، وانكفأت عن تقوية الحواضن الأساس لإعادة إنتاج المجتمع والدولة من بنى اقتصادية وخدمات وأمن، ورسخت تعطيل التقدم السياسي بفعل توازن (الفيتو) بين القوى السياسية المنتجة للقرار السياسي على مستوى الدولة، وأدلجة التنوع الإجتماعي الطبيعي لتقوده الى انشقاقات طائفية وعرقية ومناطقية كبرى،.. والأخطر، أنَّ سوء التقدير والإدارة للتغيير ولتركة الإستبداد ساعد القوى المناوئة للتغيير على فعل فعلتها، وبالذات الإرهاب، وأدّى إلى تمركز الإرهاب في العراق كقوة تخريب ودموية قل نظريها، وأدخلت العراق في صلب ملفات الإقليم الشرق الأوسطي المضطرب ليغدو العراق مشاعاً للتدخل في شأنه ومصيره.
⦁ لم تعرف الأزمة الوطنية العراقية المتجذرة حلولاً تأسيسية وطنية واقعية ورشيدة بسبب التقادم والتراكم وقصور الرؤية وتضارب الإرادات وصراع الأجندة وسوء الإدارة والإستهانة بالمسؤوليات الوطنية التأريخية، وهنا تكمن العلّة الأساس في الفشل المتكرر.
⦁ على ضوء خصائص الواقع العراقي المنهدم لحظة 2003م، كانت تتطلب مهام إعادة بناء المجتمع والنظام والدولة سيناريوهات أخرى لضبط تداعيات التغيير والتحكّم بمسيرته التحوّلية، من قبيل تشكيل حكومة مؤقتة مختصرة وكفوءة وحازمة لتنظم مناسيب التحوّل التدريجي نحو الدولة الجديدة بما يضمن ضبط إيقاع الفوضى، وامتصاص ردّات التغيير المناوئة، واحتواء تداعيات الإنهيار وما أوجده من اختلال ببنية منطقة الشرق الأوسط الأكثر تعقيداً في العالم.
⦁ وعوضاً عن اعتماد أي سيناريو ضبط وتحكم يأخذ بنظر الإعتبار الإنهدامات والتحديات والتشوهات التي نخرت كيان المجتمع والدولة، ويلحظ حجم التغيير الهائل ببنية المنطقة جيوستراتيجياً إثر سقوط نظام البعث،.. عوضاً عن ذلك، تم اعتماد سيناريو العملية السياسية القائم على أساس من معادلة الحكم التوافقي العرقطائفي الذي يعتبر بامتياز السيناريو المتجاهل والقافز على خصائص الواقع المنهدم!!
⦁ وللتاريخ أيضاً، ليست العملية السياسية بعد 2003م هي المسؤولة فقط وفقط عن إعادة إنتاج الفشل وإجهاض التغيير والولادة الجديدة للدولة، فلا يمكن عزل الفعل النوعي المضاد للقوى المتضررة من التغيير –داخلياً وخارجياً- والذي صعّب عملية التحول وأدخلها مسارات جديدة لم تكن في الحسبان، ولا يمكن عزل الفشل عن التأثير الكارثي في إجهاض التحول عندما توسل المتضررون بالطرق التخريبية والدموية كافة لإفشال العملية السياسية من خلال اعتماد أعداء التغيير (وطنياً وإقليمياً ودولياً) لمثلث الإعلام المضاد والإرهاب المنظّم والمقاطعة الشاملة!! نعم، لا يمكن عزل وتحييد العديد من عوامل التخريب والتشويه والتآمر التي عطلت التحولات النوعية المطلوبة في بنية الدولة الجديدة،.. ويبقى السبب الأساس في فشل سيناريو العملية السياسية، يبقى في طبيعة الأسس المعتمدة لإنتاج التحوّل العراقي الجديد، وفي إدارة التحوّل العراقي سياسياً وستراتيجياً بمهارة ومهنية وطهورية. لقد أخطأت العملية السياسية باعتماد المحاصصات الطائفية الأثنية الحزبوية، والتوافقات الفيتوية، واعتماد الديمقراطية التوافقية على حساب الديمقراطية البرلمانية وترجمتها على شكل توازن سلطات إرضائي مدعوم بفيتوات متقابلة تتسلح بها المكوّنات المجتمعية الرئيسة، وفشلت العملية السياسية بإنتاج قوى دولة على مستوى الإدارة الحديثة للدولة وووظائفها وسياساتها وفضاءاتها الجيوستراتيجية، وأوجدت العملية السياسية مركز سلطة هش ومنقسم وفوضوي سمح للفوضى والفساد والإختراق بالاستفحال في جسد الدولة!!
إنقاذ الدولة
⦁ أزمة العراق أزمة دولة بامتياز، على مستوى البنية والهوية والقيادة والإدارة. ولإنقاذ الدولة من سيناريوهات الفشل المتكرر، تحتاج الدولة إلى مشروع إصلاحي بنيوي شامل وحازم ومؤلم يلحظ في التخطيط والإدارة مستويات الإنهدام كافة، يبدأ بالإصلاح الدستوري ولا ينتهي بإصلاح النظام السياسي، وإلاّ لا يمكن التنبوء بمآلات الدولة على وفق مساراتها الفعلية.
⦁ أي مشروع إصلاحي حاكم عليه أن يلحظ مستويات الأزمة العراقية، وفي طليعتها: تراث الإنهدام البنيوي قبل 2003م والذي قادها إلى الإستبداد والتمييز والمغامرة والإحتلال، وإعادة النظر بجوهر العملية السياسية بعد 2003م القائمة على فكرة المكوّنات بدل مبدأ المواطنة وفكرة الأُمّة الوطنية، وإعادة التخطيط والإدارة لحواضن التحول من بنى اقتصادية وأمنية وثقافية ومجتمعية، وإعادة التقعيد والضبط للحياة السياسية المعنية بفعل الدولة بما فيها الأحزاب، وإعادة رسم وتوجيه التموضع العراقي مع الإقليم الشرق أوسطي وقواه وجبهاته وستراتيجياته وعموم محاور الصراع والمصالح الدولية على وفق الخصوصية والمصلحة العراقية.
⦁ يحتاج مشروع إنقاذ الدولة إلى: قيادة وطنية تاريخية تفرزها المجتمعيات العراقية كافة تمتاز بالوعي والطهورية والحزم والتضامن، ويحتاج إلى رافعة سياسية ومجتمعية وطنية تمكّنها من فعل الإصلاح والتغيير، ويتطلب خط شروع بنيوي يعتمد الصالح من الأسس والبناءات ويعيد التأسيس للخاطيء من المعالم والسياسات، على أساس من مبدأ الإصلاح الشامل التدريجي والتراكمي والهادف للنظام السياسي ولبناءات الدولة.
⦁ بقاء الدولة على وفق مساراتها الحالية خطأ، واعتماد سيناريوهات تغيير حالمة أو مغامرة أو قافزة على خصائص الواقع خطيئة،.. والإصلاح الشامل والواقعي والتدريجي هو الأوفر حظاً بالنجاح، إن توفرت إشتراطاته.