الدكتور محمد البياتي
اطلت علينا قبل ايام الفنانة شذى حسون بطلة بهية في احدى مناسبات الفن العراقي ( الحديث ) على ساحة الاحتفالات منشدةً النشيد الوطني إمام الحضور وكان كل شيء مثاليا حتى وصول المقطع الذي اشعل الحفل على وسائل التواصل الاجتماعي وادى الى انتشاره اعلامياً اكثر من ما كان مخطط له و لينتشر بين عوام الناس وحتى تفوق في البحث الترند والسوشل ميديا على بعض المشاهير المدعويين الى الحفل.
تحول النشيد الوطني لثواني معدودة من سالما منعماً الى ناعماً منعماً ! فهل كانت هذه سقطه فنية غير مقصودة؟ ام مجرد زلة لسانية وجودية! لتظهر للشعب العراقي ان الوطن بلفعل قد يكون العيش فيه ناعماً لبعض الفئات المنعمة اما الفئات الاخرى من ابناء الشهداء و الطبقات الكادحة من المكاريد قد يكون الوطن ترابه كافورياً لهم ليس الا.
ان الحداثة ما بعد سنة ٢٠٠٣ عصفت باخلاقيات و ذهنية المجتمع العراقي من مجتمع محافظ ومغلق على نفسه الى مجتمع يغرق بالحداثة المعاصره فامتزجت اخلاقيات الحداثة ما بعد ٢٠٠٣ مع العناصر المحافظة للمجتمع ومع ما تغللها من الاحداث السياسية والاجتماعية وحتى الامنية ادت الى ظهور المجتمع بزي جديد يختلف عن ما كان قبل عهد النظام السابق . فدخول الستلايت الذي كان مقتصرا على فئات معينة من اصحاب المناصب و بعض الرفاق من هنا وهناك اصبح متاحاً للجميع، وانتشار الموبايل وانفتاح الشعب العراقي على السفر ومشاهدة الطبيعة الاجتماعية للبلدان الاخرى، فكانت تلك الغزوة الحداثوية ان صح التعبير اشبه بفيضان عارم جرف معه كل ماهو قديم ومحافظ منشأ اسلوب جديد من طريقة الحياة و الثقافة المجتمعية والذوق الشعبي العام.
فاول ما تحول في ذائقة الناس هي الاغاني العراقية المعروفة بحزنها وشجونها ومقاماتها من رواد العصر من المغنيين الرائعين امثال ياس خضر و سعدون جابر ومن معهم من الجيل الاحدث كهيثم يوسف وكريم منصور الى اغاني البرتقالة والعكروبه وغيرها من الاغاني التي لاقت جدل كبير في وقتها ، وما ان دخل الانترنيت حتى وقع الجيل الجديد في شباك الشبكة العنكبوتية بسرعة فكان تغير طوبائية الفكر العراقي في المجتمع سريعة وخطيرة وغير قابلة للتنبؤ في بلد عاش حرمان مواكبة التطور العصري لمدة ثلاث عقود من الزمن . وبالعودة الى الوطن الناعم الذي ينعم به بعض من الفنانين والفنانات من الاجيال الجديدة ! (الاجيال القديمة لا يتنعمون كثيرا بعد ٢٠٠٣ لانهم لا يستطعون مواكبة الترند وليسوا بقادرين على انتاج التفاهات التي تؤثر في المجتمع كما يطلق عليه في الوقت الحالي بالفن ) وكذلك يشاطرهم ما يعرف حاليا بالمؤثرين الاجتماعيين او (influencers )/ (blogger) وما يشوبهم من ادعائات بجعلهم دكاكين لغسيل المال السائب في البلد وبعض السياسيين الذين تحوم حولهم شبهات الفساد الذين يعيشون في اماكن ومناطق معزوله عن الطبقات الفقيره والعاملة ، فكانهم لا يتجولون في ازقة الشعب ولا الثورة او اطراف بغداد وغيرها من المناطق صاحبة الحظ الاكبر من الشهداء والفقراء المنسيون حظا في هذا البلد المذكورون رقما فقط عند الانتخابات او كحطب نار عند اشتعال الحرب .
فاكبر هم لهذه الطبقات المنعمة تناول العشاء في افخم الاماكن والتقاط السنابات والستوريات والعناية بالبشرة ومواكبة كل ماهو جديد وغريب في عالم الموضة الغربية وركوب السيارات الفارهة والسفر والبذخ بلا حسيب ولا رقيب ولا من اين لك هذا ؟ ، فصعود تلك الطبقات اسرع من صعود من يمتلك شهادة دكتوراة احد العلوم في هذا البلد .! ونتيجة تحول المجتمع المحافظ المتعطش للاتحاق بقطار العولمة وحداثة الغرب المليئة بالسم في العسل الى مجتمع محكوم ومقيد بما تمطر عليه ايديولوجيات العالم الحديث من تغيرات اخلاقية غير محكومة برادع ثقافي ولا مجتمعي محافظ لظهور بيئة خصبة لمثل تلك البراعم المضرة في المجتمع نفسه.
واصبح العراق قطباً مغناطيسي جاذب لكل من يريد ان يشتهر اعلامياً و حتى ان كان نصفه عراقياً او مغترباً خارج البلد لا يعرف من هموم المواطن البسيط من شيء.
فقط اذكر العراق على مواقع التواصل الاجتماعي وسوف يجعلك بالمراتب الاولى وستكون من اصحاب الترند الاول الشائع ، فالشعب العراقي عاطفي لمن يدعمه ويظهر انتمائه له، فالخبزة العراقية حارة ومشبعة لمن لا يجد خبزا في وطنه الاصلي. ومن المؤسف تحول ساحة الاحتفالات من المسيرات العسكرية لاجدادنا وابائنا لاستعراض الرجوله والكرامة الى منصة لاستعراض بعض اللحم الفاسد والافخاذ المليئة باموال فقراء الشعب العراقي واصحاب الصوامع المترفه الذين سرعان ما سيزول تاثيرهم ووجودهم في المجتمع اذا ما انتبهت الاجيال الجديدة الى خطورة المنعطفات الاخلاقية و المجتمعية القادمة والحالية التي انزلق فيها المجتمع العراقي وكذلك فان الله يقول في الاية المباركة "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ" وهذا وعد الله والله اعلم.
و عاش العراق امة واحدة سالماً منعماً و غانماً مكرماً