كتب : غالب خزعل
تداعى له الاصحاب ليأخذوا قسطا من الراحه ويشربوا الشاي بعد ان قطعوا مسافة طويله في المشي منذ بواكير الصباح , لفت احدهم نظره الى عمود الدخان الابيض الضعيف الذي يتصاعد من خشبة اوقدها صاحب الشاي لتبقى متقده .
راح يتأمل في عمود الدخان ذلك الذي لم ينحن على الرغم من عتو الريح وشدتها ولم يتعرج بل يزداد صلابة كلما تطاولت الريح لثنيه .
عمود الدخان الذي تفرد بالاستقامه دون الاعمده الاخرى المتصاعده مع نار الموقد , جعلته يغمض عينيه ثم ينظر بطرفها الى اعماق التاريخ فتأخذه هذه النظره الى زمن ليس قريب ويرى ذاك الشاب الذي نهض من المرض ليتسلم الرساله بمسير طويل وبارض وعرة واقدام حفاة لاطفال ونسوة مقيدات بالاصفاد يعلوهن زجر الجلادين وسياط غلب الرجال ,
اما في طرف عينه الاخر رأى فيها الدماء التي تتقاطر من رقبة ذاك الفتى كلما حركها جرى منها الدم بغزارة بسبب المسامير الملفوفه على عنقه , وكلما حرك جفن عينيه امتلأت عينيه دمعا يرسم على خديه طريق طويل يصعب المشي حتى لغير المثخنين بالجراح والمكبلين بالاصفاد وغلظة سياط الجلادين وشدتها فلم تسمع لهم انين ولاشكوى الا ( لااله الا الله سبحانك انا موحدون) فخشع لهذه المناجاة الاتيه من ذاك الزمن البعيد فترقرق دمعه بغزاره ليجمعه بكفيه فيرى عزة ذلك الفتى الذي يحنو على بعض من الجلادين الذين لانت قلوبهم وابدوا له المساعده ومنهم من هيأ له اسباب الهرب هو ومن معه من هذا العذاب الذي يتذوقوه من بطش الامراء الذين صحبوا القافلة الى الشام رافضا عرضهم بالكبرياء كلها خشية عليهم يا لعزة وشموخ هذا الفتى .
ثم مسح وجه بدموع عينيه ليفتحها بعد ان اغمضها على سعتها فوجد منهم من يطلب العفو منه وهو مقيد بالحديد وكانه هو امير القافله وليس الطغاة فلم يكن جوابه غير جواب النبي يوسف عليه السلام لاخوته (لاتثريب عليكم اليوم ) اخذ نفسا عميقا ثم اطلق زفيرا تساءل فيه عن شكيمته وصبره وهو يعفو عمن ظلموه واذوه اثناء المسير ومازالت جراحاته نازفة وصوت السياط على الاطفال والنساء تتعالى وبلا رحمة من الذين مازالت قلوبهم قاسية كالحجارة او اشد منها قسوه .
تعالى صوته بكلمة ياالله , ياالله , ياالله .. ففزع صحابته ثم صمت لم يتحدث مرددا في نفسه ماهذه النفس الكبيره التي تعفو وتترحم للذين اذوه وعياله بشده وبكل قسوه ويدعو لهم الله ان يتقبل توبتهم فيتذكر قول الله عز وجل ( الله اعلم حيث يجعل رسالته ) فهم عناوين للرحمة ومحطات للعطاء مهما تعاظمت عليهم الشدائد واشتدت عليهم المحن , وجل همهم رضا الله سبحانه وتعالى ونشر كلمته لذلك فهم يعطون لله ولاينقصون .
مد يده لياخذ ( استكان الشاي) فحدق في الابخره التي تصاعدت منه فيرى في تلك النظرة البعيده من الزمن وجود فرصة اخرى للهرب عندما اضطربت القافله وحراسها في صد اعتراض احدى القبائل التي انتفضت لتخليص هذه الجماعه من زمرة الجلادين قبل ان يصلوا الى الشام ويتوسلوا به اذهب معنا الى حيث مأمنكم , فتأتي لاءه لانه ذاهب لاعلاء كلمة لااله الاالله فعرف من هذا الرفض ان هناك رسالة مازالت كلمتها مجهوله لمن خانته الفطنه وغاب عنه الوعي وعليه اتمامها .
كما اتمها ابراهيم بجمع من الناس مع النمرود وموسى مع فرعون انها كلمة التوحيد يرخص لها الغالي والنفيس انها رسالة الحق ليمضي به الزمن الى وقفة الامام السجاد عليه السلام في مجلس طاغي عصره ويفضحه امام الملأ المحتفل بنصر الطغاة الموهوم ثم دار وجهه يمنا ثم شمالا فكبر ثلاثا وهو يرى جموع الزائرين قائلا هذا هو النصر الذي اعزه الله بهذه الجموع التي تسير نحو رمز الحرية والكبرياء والشموخ انتصرت على الرغم من شدة الطغاة ومحاولاتهم لمنع التواقين للعز والكرامه واخماد ذاك الصوت الذي يتردد في كل عصر ومكان ( لا اعطيكم بيدي اعطاء الذليل , ولاافر منكم فرار العبيد) ..