كتب : الدكتور مصطفى الناجي
اطلقت الحكومة العراقية برئاسة المهندس محمد شياع السوداني يوم السبت الماضي 27/5/2023 مشروعا رائدا سيغير من وجه البلاد تحت عنوان (طريق التنمية ) في خطة طموحة لتطوير بنيتة العراق التحتية للسكك الحديدية والطرق ليصبح مركز نقل إقليمي يربط بين أوروبا والخليج.وفي مبادرة لربط التنمية والاقتصاد بالتعاون كاساس رئيس بين الشرق والغرب عبر وادي الرافدين .
اهمية ان يحظى العراق بمشروع مماثل كنا قد كتبنا عنه وغيرنا ايضا،ونشرت جريدة الصباح بعددها 5131 الصادر يوم الخميس 3 حزيران 2021 مقالنا الموسوم ( الاقتصاد ضد التطرف) ، اذ نمتلك من المقومات ما يجعل التهديدات التي تحيط بالعراق إلى فرص تنموية ناهضة. ففي السنوات الأولى للاحتلال الاميركي للعراق طرحت وثيقة العهد الدولي عام 2010 التي وضعت على الرف، من دون ان يلتفت اليها احد في ما بعد، ومن ثم اسهمت ظروف داخلية وخارجية على تعطيل نهوض العراق بعرقلة إقرار قانون البنى التحتية عام 2013، ثم منح العراق فرصة مفصلية اخرى عن طريق الصين عام 2019 والتي تم وأدها ايضا. ورغم ذلك ، والتحديات الكثيرة ، استطاعت حكومة السوداني من المبادارة في طرح مشروع ليس لتحقيق تنمية قتصادية فحسب ، بل وسلام مستدام ، كغجراء مشابه لفكرة تأسيس الاتحاد الاوربي،مع مفارقات في التفاصيل ووحدة في الهدف المنشود منذ الازل والذي يتمحور حول ايجاد بيئة مستقرة دائمة التنمية معززة بالمصالح المشتركة لتخلق سلاما مستداما قوامه الشراكة .
دفعت الظروف والنظرة الموضوعية لالمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية كلا من روبرت شومان وزير خارجية فرنسا، والمستشار الالماني كونراد ايدناور، ورئيس وزراء بريطانيا وينستون تشرتشل إلى التفكير الجدي في سحب ألمانيا نحو التعاون الاقتصادي والمستدام وربطها بسلاسة مع المحيط الاوروبي، ووضع التعاون بدل الصراع من خلال وضع صناعة الفحم والصلب تحت الرقابة التعاونية، والسبب في اختيار هذا القطاع من الصناعات لضمان عدم توجه ألمانيا نحو التصنيع الحربي اولا، وتوجيه الاقتصاد الالماني نحو التنمية الاقتصادية ثانيا.
من هذه البداية تأسست الجمعية الأوروبية للفحم والصلب «ECSC» عام 1951 والتي ضمت ابتداء دول ألمانيا وفرنسا وإيطاليا ودول البينيلوكس «بلجيكا، هولندا، لوكسمبورغ» والتي ستتطور في ما بعد لتكتمل في صورة الاتحاد الاوروبي الحالي المكون من 27 دولة بعد خروج بريطانيا في ما عرف ببريكست.
بهذه الطريقة استطاعت اوروبا مساعدة ألمانيا للجنوح نحو السلام وتوجيه مواردها للتنمية الاقتصادية، وبعد نصف قرن من ذلك العمل، أصبحت ألمانيا أقوى اقتصاد في اوربا، ونواة للاتحاد الاوروبي والسوق الأوروبية المشتركة، من دون ان تصنع دبابة او مدفعا عملاقا.
كيف يمكن أن نستفيد من التجربة ؟
الوصول الى تنمية مستدامة يرتكز على اقتصاد مستدام غير نفطي وعقدة ارتباط تخدم جيران العراق والمنطقة، وإسهاما في جلب جهود التكامل الاقتصادي بحسب كلمة دولة رئيس الوزراء في انطلاق مؤتمر مشروع طريق التنمية لربط ميناء الفاو الكبير بتركيا وصولا إلى أوروبا.
قد تبدو فكرة السلام المستدام صعبا للغاية في منطقة الشرق الاوسط،حيث الصراع بدل التعاون،وعدم الاستقرار السياسي والتحديات المناخية والامنية والاقتصادية،لكنها ليست بالمستحيلة،وبالامكان البدء بمشاريع تجمع ما بين دول الجوار العراقي،ثم تنمية تلك المشاريع شيئا فشيئا لتصبح نواة للتعاون الاقتصادي.فالزراعة والمياه والنفط والعنصر البشري عوامل يمكن من خلالها الشروع بتفاهم يجمع ما بين تلك البلدان،ولذلك يبدو ان (طريق التنمية) لن يختصر المسافات الزمنية فقط،بل بامكانه ان يكون نواة لتقارب اقليمي ، وتعاون ينعكس على استقرار المنطقة ،فضلا عن الفوائد المادية والاقتصادية والمناخية والبيئية للعراق .فحينما تجني دول الاتفاق المكاسب الاقتصادية،فانها ستلهم الدول الأخرى على الدخول في هذه الشراكة لتقاسم مزايا التعاون الاقتصادي والتجاري،وسيكون لتلك المزايا مفعول (السحر) القادر على اذابة اي اختلافات من هذا النوع او على الاقل تأجيلها، ومثلما أنهت الجمعية الأوروبية للفحم والصلب صراعا دمويا دام قرونا من الزمان، فيمكن لنواة التعاون المشترك للعراق مع دول الجوار،أن ينهي قرونا اخرى من الصراع والعنف.
مشروع طريق التنمية (القناة الجافة)
ماهو ، وكم تكلفته ، وما الفوائد المتوقعة من انشاءه ؟
بإختصار ;مشروع طريق التنمية الذي شاركت في جدول اعمال الاعلان عنه 8 دول إقليمية، وهي: السعودية وتركيا وسوريا والأردن والكويت والبحرين وقطر والإمارات وإيران ،اضافة الى العراق البلد المضيف،فضلا عن ممثلين عن الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي.هو مشروع عراقي سيادي لربط سككي وبري بين الجنوب والشمال وبين الشرق والغرب لنقل البضائع من أوروبا إلى الخليج وبالعكس عبر العراق، تصل كلفة المشروع إلى (17) مليار دولار، (10) منها لشراء قطارات كهربائية سريعة تنقل الحمولات في غضون (16) ساعة، فيما ينفق المتبقي لمد شبكة سكك الحديد بطول (1200) كم بمدة انجاز قياسية خلال اربعة سنوات، ابتداءً من سنة 2024 حتى سنة 2028 للمرحلة الاولى التي ستركز على مد خطوط السكة الحديدية وطريق سبري سريع من ميناء الفاو الكبير العراقي في جنوب العراق إلى منفذ فيشخابور العراقي في شمال العراق المتاخم للحدود التركية، بطول السكة 1175 كيلومتراً، وطول الطريق البري بين بين الفاو ومنفذ فيشخابور 1190 كيلومتراً، ولكل من سكة الحديد والطريق البري مسار، فلا يلتقيان إلا في شمال محافظة كربلاء ويستمر سيرهما متقاربين حتى منفذ فيشخابور.وستكون على طول امتداد المشروع مدن صناعية ، ومدن سكنية جديدة تبعد عن مراكز المدن الكبرى من 10 إلى 20 كيلومترا على الأقل، كما سيصب المشروع الضخم كذلك في مصلحة قطاع المياه في العراق، حيث يتضمن خطة لتحلية مياه البحر، كما يتضمن بناء موانئ ومطارات، وأن تنفيذه سيكون باتجاه الصحراء بهدف استصلاح الأراضي للزراعة والصناعة والتجارة.
وفقا للمشروع،سيتم تشغيل قطارات عالية السرعة لنقل البضائع بسرعة تبلغ 140 كيلومترا في الساعة، في حين تُقدر السرعة القصوى لنقل الركاب بـ 300 كيلومتر (186.41 ميلاً) في الساعة. ومن المخطط أن تنتهي المرحلة الأولى من هذا المشروع بحلول عام 2028 بمدة إنجاز قياسية خلال 4 سنوات فقط،على أن تنتهي المرحلة الثانية بعدها بعشر سنوات،إذ تزداد معها الطاقة الاستيعابية للنقل إلى 400 ألف حاوية،وصولا إلى المرحلة النهائية المقررة عام 2050 عند اكتمال المشروع الكامل لميناء الفاو الذي سيضم 99 رصيفا للشحن.تشهد الخطوة التالية تعاقدات مع شركات استثمارية،وأن يحظى المشروع بتمويل من تركيا والسعودية والإمارات وقطر. بما يعني انه سيكونةمشروعا استثماريا وامكانية مشاركة الدول المساهمة في جزء من المشروع.
الفوائد والمزايا
داخليا; فإن ما يميز المشروع ان الحكومة العراقية ستضمن أن تكون جميع البنى التحتية المتعلقة بالعراق "سيادية"، وبلاشك أن الفائدة الأولى لطريق التنمية ستعود على العراق،الذي سيحصل على عوائد "الترانزيت" وعوائد تصدير بعض السلع المحلية التي يعتزم العراق تنشيطها.كما انه سيوفر 100 ألف فرصة عمل كمرحلة أولى، ومليون فرصة بعد إكماله وإنجازه، و سيتضمن خطوطا للسكك الحديدية للقطارات السريعة وطرقا برية سريعة تمر بـــــ13 محافظة عراقية.ومع اكتمال المرحلة الأولى عام 2028، فإن الطريق سيوفر نقل 3.5 ملايين حاوية شحن للبضائع، مع إيرادات تقدر بنحو 4.8 مليارات دولار سنويا.فضلا عن المنشآت الصناعية والسكانية ومشاريع تحيلة المياه وغيرها من الفوائد.
اقليميا ودوليا ;يبدو ان المشروع جذب انظار الدول الصناعية الكبرى ، فالصين أبدت استعدادها لنقل جزء من معاملها إلى مدينة الفاو، مستفيدة من قِصَر المسافة وتوافر المواد الأولية والأيدي العاملة، كما ان الاهمية الدولية للمشروع بان طريق التنمية الذي سيربط جنوب العراق بالجانب الأوروبي؛ من حيث تقليل تكلفة نقل البضائع بين أوروبا وآسيا وصولا إلى الهند والصين.، كما انه سيكون حلقة وصل ممتازة بضم السكة الحديد الخاصة بمشروع العراق، مع سكك الحديد الخليجية، وهو ما سيربط بين الخليج وتركيا، و"سيساهم في تنشيط التجارة من موانئ عُمان وصولا إلى أوروبا"
أما عن إسهام المشروع في تقليص مدة شحن البضائع، فإن زمن الرحلة البحرية للسفن المحملة بالبضائع من ميناء شنغهاي الصيني إلى ميناء روتردام الهولندي تستغرق نحو 33 يوما،في حين أنها ستستغرق 15 يوما فقط عندما تنتقل البضائع من ميناء شنغهاي الصيني إلى ميناء جوادر الباكستاني ثم إلى ميناء الفاو الكبير، ومنه عبر طريق التنمية) إلى موانئ البحر المتوسط في تركيا، ومنها إلى ميناء روتردام الهولندي، بما يعني تقليص زمن الرحلة بأكثر من 50%، وفقا للعديد من المختصين .
وبشكل عام، سيلعب المشروع دورا محوريا في تنشيط الحركة التجارية، وزيادة العلاقات بين أوروبا والشرق، إلى جانب تحقيق الاستقرار والأمن في المنطقة؛ في ظل احتياج الطرق الجديدة إلى التأمين.