29 Dec
29Dec

 

محمد عبد الجبار الشبوط

من الناحية الحضارية، لم يخطيء الدستور العراقي حين اقر بالجمع بين الإسلام والديمقراطية في سياق دستوري واحد حين قال في مادته الثانية: "لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت احكام الاسلام" و "لا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية". (مع انني لا اقبل عبارة "احكام الاسلام" بالمطلق لتفصيل ليس محله هذا المقال).

قلت: من "الناحية الحضارية" لأنني لا ابحث الموضوع من الناحية السياسية، وانما من الناحية الحضارية. وعلى اساس هذا المنطلق اقبل القول بوجود سمات حضارية خاصة لبعض المجتمعات، وثمة ثلاثة امثلة صارخة في هذا المجال هي: المجتمع الصيني، والمجتمع الاميركي، وبالطبع المجتمع العراقي. في مثل هذه المجتمعات لا يمكن فصل الهوية الحضارية للمجتمع عن الكيان الدستوري للدولة المعاصرة. المفكرون الكبار في المجتمع الصيني والمجتمع الاميركي يدركون ذلك، ومن المؤمل ان يدرك المفكرون في المجتمع العراقي ذلك.

على المستوى الصيني كتب الباحث الصيني زهانك وي وي في كتابه The China Wave (٢٠١٢): "إن الصين، كدولة حضارية، قديمة وفتية في آن، تقليدية وحديثة، صينية ودولية. يمكن استخلاص ما لا يقل عن ثماني سمات من الدولة الحضارية للصين، وهذه السمات هي (1) عدد كبير جدًا من السكان، (2) منطقة شاسعة للغاية، (3) تقاليد طويلة جدًا، (4) دولة فائقة الاتساع. ثقافة غنية، (5) لغة فريدة، (6) سياسة فريدة، (7) مجتمع فريد، و(8) اقتصاد فريد، أو ببساطة "الأربعة الفائقة" و"الأربعة الفريدة"، وكل منها يجمع عناصر الحضارة الصينية القديمة والدولة الحديثة الجديدة."

ومع ان مترجم الكتاب الى اللغة الانكليزية استخدم مصطلح civilizational state, الا ان بعض الكتاب يستخدم مصطلح civilization-state الذي سيقابل مصلح nation-state او city-state. والنتيجة واحدة وهي، باللغة العربية، ان الصين دولة حضارة حضارية في هويتها التاريخية وفي تواصلها مع عصرها الراهن. 

وعلى المستوى الاميركي، كتب الباحث الاميركي صامويل هنتنغتون في مقاله الشهير "صدام الحضارات" في العدد ٣ / ٧٣ من مجلة Foreign Affairs الذي ذكر فيه ان "الحضارات تتميز عن بعضها البعض بالتاريخ واللغات والثقافة والتقاليد والأهم بالدين"، عدد "الأفكار الغربية وهي،:الليبرالية، الدستورية، حقوق الإنسان، المساواة، الحرية، سيادة القانون، الديمقراطية، السوق الحرة، الفصل بين الكنيسة والدولة" ويمكن ان نضيف اليها:  المسيحية-اليهودية، استنادا الى مجمل كتاباته.

وفيما يتعلق بالمجتمع العراقي، فمن نافلة القول ان العراق وريث سلسلة طويلة من الحضارات منذ الحضارة السومرية وصولا الى الحضارة الاسلامية. ولا يقدح في هذا العمق الحضاري والأصالة الحضارية النكسات التي تعرض لها العراق مثل احتلاله من قبل المغول وسقوط بغداد في ١٠ شباط من عام ١٢٥٨. بل ان العراق استطاع ان يمتص الغزو المغولي بحيث اسلم المغول بعد حوالي ٣٠ سنة من الغزو. وفي المحصلة النهائية اصبح المجتمع العراقي "امة كتاب" والكتاب هو القران الكريم الذي صار احد المكونات الثقافية الاساسية للهوية الحضارية للمجتمع العراقي. وعليه فليس من الصحيح القطيعة مع القران الكريم، بل لابد من الانفتاح عليه بذهنية العصر وثقافته، واعادة انتاج فهمه وتفسيره برؤية حضارية معاصرة كما دعا السيد محمد باقر الصدر. 

هنا لا تشتغل "القطيعة" بمعناها المطلق، فقد يمكن الحديث عن القطيعة العلمية والمعرفية، كما فعل باشلار، لنحقق القطيعة العلمية مع القول بان الارض مسطحة، او ان الارض مركز الكون، لنأخذ بالكشف العلمي الذي اطلقه كوبرنيكوس (١٤٧٣-١٥٤٣)، او بوجود الهة للحرب وللحب وللمطر الخ كما تقول الاساطير السومرية والاغريقية،  مثلا. 

لا تصح القطيعة الحضارية بالمعنى العام لان "الحضارة" كل متصل او "cultural entity" ينتقل من جيل الى جيل، ويتطور مع مرور الزمن، ولا ينقطع مع نفسه بالمطلق، ولا ينقطع مع عصره بالمطلق. ولا يفرض هذا المتصل الحضاري التواصل مع عصره، ولهذا تتطور الحضارات بمرور الزمن، تأثرا بالتطورات التي يحملها الزمن المعاصر. ومع تقدم تكنولوجيا المعلومات اصبح التواصل الحضاري ظاهرة عالمية، وهو الامر الذي يسمح بالتنبوء بالمستقبل الحضاري للبشرية.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن