28 Mar
28Mar

إن أول ما يواجه القارئ من أيِّ كتاب مداخله التي تهيئ المتلقي لما سيرى ويجدُ في هذا الكيان العلمي، فهي النوافذ التي يُطلُّ منها على المضمون، وهي تشمل غلاف الكتاب والعنوان والإهداء، والكتاب الذي بين أيدينا يحكي غلافه قصته؛ إذ تجده صورة لسطحٍ أو جدارٍ قد أُلصقَ مراتٍ عديدة دون تمزُّقٍ أو تصدُّعٍ تحتها، حتى باتت هذه اللصقات تُربك الناظر وتُحيره في آنٍ واحد، ثم يأتي  العنوان ليزيد هذه الحيرة "التحريف في القرآن الكريم" فيصدم القارئ ويجعله يتساءل: هل هناك تحريفٌ في القرآن؟! لم نكن نعلم بذلك، فقد تعلمنا منذ الصغر أن القرآن حُفظَ في أيدٍ أمينة حتى وصل إلينا، ونكمل العنوان "قراءة في وجوهه ونصوصه" لنكتشف أن لهذا التحريف وجوهاً ونصوصاً تدلُّ عليه، فما القصة؟

وما أن تفتح الكتاب حتى يلقاك الإهداء "إننا لا نموت بالرصاص، بل بخيانتنا للحقيقة. أُهدي هذا الكتاب إلى كل الذين يموتون بهذه الطريقة"، وهذا يَشي بمعلومة مفادُها: أن ثمة حقيقة قد أخفيَت عنّا، وأن الذين لا يعلمون الحقيقة كُثُر بدلالة لفظتي (إلى كل)، فتعلم أن ما سيناقشه الكتاب لم تسمع به من قبل، أو سمعت به على وجه الإجمال لا التفصيل، فتُسرع متشوقاً لتلقّيه، وبذلك أّدّت عتبات النص مهمتها على أكمل وجه في هذا الكتاب.

ـ المنهج:

لابد للباحث الحاذق أو المتمرس من منهجٍ يسلكه وإلا تاهَ في متاهة المادة الغزيرة التي يريد عرضها لقُرّائه، ومن ثمّ توههم معه؛ فلا هو أرسل الرسالة، ولا هم فهموا المقصود، لذلك عمد مؤلف كتابنا إلى تحديد منهجه بعد أن وقع بين أمرين؛ هما ((عموم الإيمان بعدم تحريفه مطلقاً [يعني القرآن]، وتماهي الشك إلى القول بتحريفه بعضاً ـ فإنه لابد من أن يكون ثمة مخرج إنصافي ومنطق إقناعي يمكن سلوكه لمعرفة الجادة الصواب والحقيقة الفاصلة ...))، وهو هنا قد وضع مشكلة البحث بين يدي القارئ ليُشركه في حلها، أي سنضع الأدلة ونناقشها معاً لنتوصل إلى الحقيقة، وحدد الطريقة بقوله: (( ... وبناءً عليه سينتظم هذا المنتج العلمي في قراءتين موضوعيتين؛ تكمن الأولى منهما في بيان وجوه التحريف في القرآن، أما الأخرى فتقع في قراءة النصوص المستبعدَة من القرآن الكريم قراءة تحليلية مفصّلة))، فقد حدّد الهدف بمعرفة وجوه التحريف وطمأنَ القارئ أن القراءتين ستكون موضوعية، أي بمناقشة النصوص التي وردت، فلن يقطع بشيءٍ إلا بوجود المتلقي الذي سيرى ويُحلل ويُناقش ويتدبر في النصوص.

ـ تحديد المصطلحات:

لا غنى لكل بحثٍ علمي عن فهم المصطلحات والخوض في التعريفات والتحديدات؛ إذ كيف لنا أن نحلّ مشكلةٍ دون تفكيكها إلى وحداتٍ أصغر وفهم كلِّ وحدةٍ على حدة؟ فكان لزاماً على الكاتب أن يُعرف (التحريف) ويتناوله من جانبين؛ لغوي واصطلاحي، ويعرضه من وجهاتِ نظرٍ عديدة في عصورٍ مختلفة، ليُفضي به البحثُ إلى أن التحريف نصي ومعنوي، وهو في هذا الكتاب يقصد التحريف النصي، وهو ((كل عملية تغيير تنال القرآن الكريم في حركة أو حرفٍ أو جزء من كلمةٍ أو جملةٍ أو آيةٍ أو سورةٍ بأسرها سواء أكان بنقص أو زيادة أو تبديل أو تغيير في مكان أو ترتيب، وهو ما يمكن أن نطلق عليه بـ"التحريف النصي"))، وهو هنا يزيد مخاوف المتلقي ويُشعره ضمناً بوجود التحريف فعلاً.

ـ وجوه التحريف:

إن المنطق المعرفي السليم يقتضي أن يبدأ الباحث بالتعداد، أي حصر الأوجه والتسلسل بها من الأسهل إلى الأصعب، أومن الأضعف إلى الأقوى، ثم استجلب لكلِّ وجهٍ من الوجوه شواهد قرآنية لتوضيحه وبيانه، ولأن من تحدثوا عن التحريف من العلماء كُثر ولا يمكن مناقشة آرائهم جميعاً‘ فقد اختار مؤلف الكتاب الشيخ هادي كاشف الغطاء؛ لإظهار جهده العلمي في هذه المسألة، ثم بدأ بالوجه الأول من أوجه التحريف، وهو "تفسير القرآن بغير معناه المراد"، وهذا واردٌ جداً وكثيرٌ جداً في نتاج المفسرين إلى اليوم، وهو في أبسط تعريفاته ((أن يُفَسَّرَ القرآن بغير معناه الحقيقي بلا قرينة على ذلك ولا شاهد)) وناقش الكاتب هذا الرأي، بقوله: ((... فإننا سنجد بأنه [أي الشيخ هادي] قد خالف المألوف الذهني أو السائد المعرفي في نطاق معرفة وجه التحريف في القرآن الكريم؛ ذلك بأن المتفق عليه تسيُّداً هو أن التحريف يقع في ذات النص نفسه؛ أي في بنية النص القرآني ذاتها أصالةً وليس في بيانه تباعاً))، ثم التمس الكاتب العذر للشيخ هادي بأنه كان ناظراً إلى أن النص مرتبطٌ بمعناه بعلاقة ارتباطية توثيقية وثائقية، ولكن لا يمكن القول بأن تفسير القرآن بالرأي هو تحريفٌ لمعناه.

أما الوجه الثاني فهو "التحريف بالنقصان والزيادة والتبديل في الحروف والحركات"، كتحريف((مالك إلى ملك، وكتحريف تحسسوا عن يوسف إلى تجسسوا، وهذا التحريف في القرآن جائزٌ إذا قرأ به أحد القراء السبعة))، ويرى المؤلف أنه: ((في كل الأحوال لا يمكن وضع "تجسسوا" بدلاً من "تحسسوا" لأن لفظة التجسس في كل الأحوال سواء أكان في الاستعمال القرآني أم في كلام الرسول الأكرم هي مذمومة ومنهيٌ عنها وواردة في سياق السوء مطلقاً))، وعليه لا يمكن استبدال احدى الكلمتين محل الأخرى بداعي القراءة القرآنية.

أما الوجه الثالث فهو "النقص بكلمة أو كلمتين"، وهو الشائع والمألوف في القول بتحريف القرآن؛ ذلك بأن أي زيادة أو نقصان في بنية النص يعد تحريفاً له لأن النقصان يفضي إلى نقص في المعنى ما يدعو إلى عدم تكامل التصور الوافي للآية الكريمة. ثم يورد مثالاً لذلك (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم)؛ إذ قرأها ابن كثير بزيادة حرف الجر (من) قبل تحتها الأنهار، أي (تجري من تحتها الأنهار)، وهذا تحريف؛ لأن ورود هذا الجزء من الآية دون حرف الجر (من) مقصود مُغَيّا؛ إذ جعل منابع الأنهار خفية ولم يذكر من أين تنبع أو تنحدر دلالةً على عِظَم إكرام المُتَحدَّث عنهم، وهم المهاجرون الأوائل، وهناك توجيهات أخرى ذكرها المفسرون لعدم ورود حرف الجر (من) في هذا الموضع  تراجع في محلها، ولكن المراد أن قراءة ابن كثير مخطوءة.

ـ النصوص المستبعدة:

يزعم بعض علماء الأمة أن ثمة نصوص استُبعدت من القرآن الكريم، ولم ينفِ المؤلف هذا الأمر من البداية كما أنه لم يُقرّه، بل سلك طريقاً لا يُردُّ، وهو ((معيار معارضة هذه النصوص مع المتن القرآني بناءً وصياغةً، فناً ومضموناً، سياقاً وتركيباً لمعرفة مدى توافق هذه الآيات المُدّعاة أو النصوص المزعومة مع خصوصيات الخطاب القرآني ومزاياه، فإن اتفقت معه القذة بالقذة فهي هو، وإن لم توافقه أو تلتقِ معه مسلكاً ونسجاً فإنها ليست هي إياه))، وهذا هو المسلك الصحيح والأفضل لمعرفة الحقيقة؛ لأن النص القرآني تميّز بأسلوبه عن أصناف الكلام، وأقرّ بذلك كلُّ من سمعه، وهو الطريق الذي يُجنّب المؤلف الاتّكاء على دليل الإعجاز وتحدي المشركين، وكذلك غضّ المؤلف الطرف عن شهادة القرآن عن نفسه في قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)، وابتعد عن الدليل الروائي، الذي يوثق صحة صمود النص القرآني ضد أي تحريفٍ مهما كان نوعه؛ لأن المعيار الذي يحسم الأمر هو التحليل، فهو المسلك الأوثق والأفضل لإقناع القارئ وإشراكه في الوقت ذاته، وبناءً على ذلك شرع المؤلف في تحليل الآيات التي يُدّعى أنها كانت في القرآن الكريم واستبعدت منه وأثبت بالأدلة اللغوية والأسلوبية والعقلية أنه زعمٌ لم يصمد أمام النقاش العلمي

ـ خلاصة ورأي:

خلص المؤلف بعد مناقشة وجوه التحريف إلى أن ((كل ما قيل بهذا الشأن هو محض تصور لا أساس له في الواقع من مرتكز وليس له إلى الحقيقة من رابط مطلقاً، فلا نصوص مستبعدة من النص القرآني في متنه ولا وجود لمنطوق النقص أو الزيادة فيه ... فلا تحريف أو استبدال ولا تغيير أو استعاضة ولا تفريط ولا إفراط في بنائه؛ بل حُسِبَ لكل حرفٍ حسابه ومكانه ودلالته فيه مطلقا))، وهنا لا بد من كلمةٍ تُحسَب للمؤلف، فلم يقطع بعدم وجود التحريف في القرآن الكريم إلا في خاتمة الكتاب؛ إذ عرض الأقوال وتأملها واستقرأ النصوص وناقشها وردّ على القائلين بالتحريف بالأدلة عبرَ حوارٍ علميٍ هادئ، فكشفت النصوص المزعومة عن نفسها، لأنها ليست من جنس النص القرآني، فسبحان الذي نزّل القرآن وحفظه من عبث العابثين وتقوّل المتقوّلين.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن