08 May
08May

بقلم د. ايناس عبد الهادي الربيعي   

كانت ومازالت السيادة الوطنية تشكل أحد أهم المواضيع المحورية التي تحظى بالأهمية في الدراسات القانونية والسياسية وفي العلاقات الدولية  وذلك لكونها من المحددات المركزية للدولة ، فهي أحد أهم الاركان الجوهرية التي تبنى عليها نظرية الدولة في الفكر السياسي والقانوني ، كما تعد من المبادئ الاساسية التي تسهم في بنيان الصرح القانوني الدولي والعلاقات الدولية المعاصرة كمفهوم قانوني وسياسي يرتبط بالدولة بإعتبارها أحد أهم خصائصها كعضو في المجتمع الدولي والتي يتجسد بموجبها الاستقلال الوطني للدولة 

ولأهمية الموضوع  كان تبني مشروع تأسيسي لتشخيص الاختلالات التي تواجه بناء الدولة بحثا عن مفاتيح  حل أزمة العراق سياديا كتجربة فريدة ومتميزة ومنفردة في الفكر السياسي المعاصر برعاية الدكتور أبراهيم بحر العلوم الراعي لذلك المشروع البحثي الذي ارتكز على ثلاثة ركائز رئيسية ، الاولى أستنطاق مباشر للتجربة السياسية خلال ثمانية عشرة عام وفقا لما جاء على لسان رؤساء الوزراء الذين تعاقبوا على سدة الحكم بعد التغيير وبمحاور كان هدفها الرئيسي مناقشة تجربتهم خلال تلك الفترة لتصبح العمود الفقري للمراحل اللاحقة للمشروع لتكون بذلك الوثيقة الاولى المدونة في الفكر السياسي العراقي المعاصر والتي تناقش مفهوم السيادة في ضوء التجربة السياسية .

الركيزة الثانية فقد كانت استفتاء نخبوي عراقي الامر الذي أكسبها صفة ان تكون قراءة نقدية واعية وجريئة لمشاركة طيف واسع من الاحزاب السياسية و الاكاديمية والباحثين والتي مثلت النسيج العراقي وهو يتحدث بصوت عال وبرؤية نقدية بتحليل التجربة السياسية ليمثل ذلك نجاحا للمشروع في تقديم رؤية نقدية وبإمتياز للمشروع.

في حين تصدت الركيزة الثالثة وعبر شخصيات أكاديمية وأعلامية لتلخيص أفكار النخب السياسية والاكاديمية المشاركة في تبني الرؤية النقدية للمشروع مع الخروج بتوصيات وأستنتاجات للتجربة السياسية والفكر السياسي لتكون مبادرة السيادة هي المسمى على الجهد الاكاديمي بهذا الجانب.

عند البدء بتصفح الكتاب مجد الاشارة وبشكل واضح الى ان الكتاب يمثل تجربة متفردة وجريئة منذ صدور نسخته الاولى الالكترونية في شباط من العام 2021  ومشروع متميز حافظ على خصوصيته ونكهته الوطنية واستقلاله لولادته من رحم عراقي مع تميز الجهات الراعية بتعاملها الحيادي والانسيابي للآراء والمناقشات انطلاقا من الحوار الهادف واحترام الرأي الاخر مع الالتزام بمبادئ الحوار السليم مع الحفاظ بالمهنية والسجال غير الهادف لخلق مسار جديد يمزج بين التجربة السياسية والفكر السياسي في محاولة لاكتشاف تلك الاختلالات في بناء الدولة ومعالجتها ، لنكون امام خارطة طريق للمرحلة الاولى والتي تمثلت في التواصل مع عدد من الشخصيات السياسية والاكاديمية ومراكز التفكير بعد أطلاق النسخة الالكترونية للمشروع بهدف التعرف على مقترحاتهم المستقبلية لتخطي الانجراف وراء الرؤية الاحادية والانطلاق برؤية واسعة الابعاد تتضمن التوصيات لرسم خارطة طريق عملية مع آليات البحث عن مشتركات ومرتكزات أساسية للعمل عليها وهو ما تحقق من خلال التعاون مع مراكز الفكر والبحوث للتعاون لخلق آفاق سياسية وموج نخبوي لتكون مرتكزا أساسيا في تعزيز العلاقات الوطنية من جهة وبين علاقات العراق كدولة مع دول الجوار والعالم من جهة أخرى وهو ما تحقق عبر العمل بمبدأ المزاوجة بين رجال السياسة والاكاديمي وهو ما منح الحوار قيمة موضوعية لتكون المخرجات مزيجا من الخبرة والتجربة السياسية والمعرفة والفكر السياسي .

ومن خلال بحث جدلية العلاقة بين السيادة والمصلحة الوطنية والتي اتضح من خلالها بانه لا وجود للسيادة بشكلها المطلق للتغيرات التي تعرضت لها بسبب العولمة والاتصالات والتدخل الدولي ، مع الاشارة لوجود تلازم بين السيادة والديمقراطية والاستقلال  وهو ما يؤكد بانه لا سبيل للعراق نحو الديمقراطية الا بتقوية الدولة داخليا لكونها تمثل الاساس لسيادتها في الخارج وهو ما يدفع لاعتماد تغليب المصالح الوطنية وبما يتفق وكيفية مواجهة التهديدات والتحديات التي تواجه البلد وبما يؤكد أهمية المصالح العليا وضرورة الاصلاح السياسي والتشريعي والمجتمعي والثقافي.

وانطلاقا من ذلك كانت عقد اللقاءات بين الرئاسات الثلاثة والقيادات السياسية العراقية لاطلاعهم على المجهود الوطني في المعالجة النظرية لتلك الازمة وهو ما كان موضوعا لتصريحات كل من السيد (برهم صالح) رئيس الجمهورية السابق والسيد ( مصطفى الكاظمي) رئيس الوزراء السابق والسيد ( محمد الحلبوسي ) رئيس مجلس النواب والسيد ( عمار الحكيم ) زعيم تيار الحكمة الوطني والسيد (أسامة النجيفي ) رئيس جبهة الانقاذ والتنمية والسيد وزعيم أئتلاف الفتح (هادي العامري) رئيسا الوزراء السابقين كل من السيد ( عادل عبد المهدي ) والسيد ( ابراهيم الجعفري )  والسيد (أياد علاوي) والسيد ( قيس الخزعلي) الامين العام لعصائب أهل الحق والسيد ( حاجم الحسني) رئيس الجمعية الوطنية والسيد ( سليم الجبوري) رئيس مجلس النواب السابق والسيد ( مسرور بارزاني ) رئيس حكومة اقليم كردستان العراق والسيد ( مسعود بارزاني) رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني  ورئيس مجلس النواب الاسبق ( محمود المشهداني) و رئيس الهيئة السياسية للتيار الصدري ( د. نصا الربيعي) ورئيسة بعثة الامم المتحدة (جنين بلاسخارت) والدكتور ( عبد الحسين الموسوي) امين عام تحالف النهج الوطني والدكتور ( جاسم الحلفي) عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي والذين أكدوا أشادتهم ودعمهم للجهود الرامية لبناء الدولة وفي مقدمتها مبادرة السيادة التي مثلت وفق ما أدلوا به مشروع متفرد ومميز من حيث الرؤية وسعة المشاركة التي أكدت ضرورة اللجوء لإصلاحات جوهرية لديمومة العملية السياسية والتي لا يمكن ان تتحقق الا بالحوار الوطني وتوحيد المصالح العليا بوجود ضمانات تدعم تلك المبادرة.

لم تختلف تلك التصورات والتوجهات لدى مراكز التفكير والبحوث في العاصمة والمحافظات والاقليم  والتي على الرغم من حداثة عهدها ومحدودية تأثيرها على المشهد السياسي الا ان عددا منها بات يمثل واجهات لأحزاب وتيارات سياسية بما يجعلها رافد أستشاري خارج الاطر الحزبية او الفئوية الضيقة وبما يمثل الجانب الايجابي في تفعيل دور النخب الاجتماعية والفكرية والاكاديمية في حوار وطني واسع ووضع خارطة طريق لجمع الفرقاء والاضداد وتوحيد المبادرات لاستثمار مكانة العراق وقواه السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

وانطلاقا من أهمية الموضوع وتماشيا مع السعي لتحقيق أفضل النتائج أطلق معهد العلمين للدراسات العليا مسابقة السيادة والمصلحة الوطنية ليكون بذلك مشروعا يهدف لتعظيم الموارد البشرية هدفه الاساس النهوض بخلق جيل من الباحثين القادرين على معالجة المشاكل وطرح البدائل بأساس علمي وبما يتفق وخصوصية المجتمع العراقي ، ليكون الهدف منصبا على أطلاق مسابقة بحثية عبر أختيار محاور الندوات المعقودة بهذا الجانب لتكون محورا للبحوث المشاركة في المحفل العلمي الذي أنطلق برعاية معهد العلمين للدراسات العليا لبحث تلك الازمة والذي تمخض عن نتائج عدة منها :

  • التصادم بين الهوية الوطنية والسيادة والمصلحة الوطنية .
  • الدين وسيلة حشد لمصالح الاحزاب.
  • اسقاط المفاهيم الايدلوجية.
  • السيادة وأشكالية العلاقة مع أقليم كردستان.
  • سياسية ومركزية للثروات.
  • السيادة والمصلحة امام التحديات الاقليمية والدولية.
  • نهج المحاصصة.
  • منظومات الضغط.
  • ملف الرقابة والمتابعة.
  • الدبلوماسية المتوازنة.

لتمثل بذلك دراسات واقعية لازمة حقيقية لا تلوح في لافق القريب حلول لها لاقتران عاملين قد يؤدي بقائهما لتفتت الدولة العراقية وهما كل من التدخلات الخارجية الاقليمية وتوابعها المحلية .

تضمن الكتاب مجموعة من النشاطات والفعاليات التي تمحورت حول مسابقة السيادة والمصلحة الوطنية بعرض للبحوث الفائزة والتي مثلت محورا للفصل الثاني من الكتاب ، ليكون الفصل الثالث والرابع محورا لفعاليات وندوات المعهد المقامة في الجامعات العراقية وبين نخب وشخصيات تم أختيارها للبحث في الموضوع بشكل معمق ليكون الختام في الفصل الخامس بعرض لقراءات في مشروع أزمة العراق سياديا.

ومن هذا المنطلق لا مناص من القول بأنه على المستوى النظري ارتبط تغير مفهوم سيادة وبناء الدولة بتحول السياقات التي فَرضت بدورها المراجعة النقدية، وبالتالي التطور النظري والمنهجي لدراسة هذه الظاهرة، الأمر الذي جعل المختصين (من علماء السياسة المقارنة) في متابعةٍ مستمرةٍ للمستجدات الحاصلة، خاصة ما أفرزته العولمة من تحديات كلحظة تاريخية حاسمة ، ومن ثمّ برزت ضرورةٌ ملحّةٌ لإعادة النظر في مرتكزات وخصائص سيادة الدولة، ومستويات تحليلها لكن في المقابل لم يبقى ذلك إلاّ طموحاً نظرياً، وضع أنصار النظرية السياسية المعاصرة (هابرماس- راولز) على الوِجهة الإجرائية في دراسة هذه الظاهرة، وذلك بهدف الإجابة عن التساؤلات الراهنة بما يتعلق بسيادة الدولة وُفقاً لمعيار الاستجابة لاحتياجات الفرد والمجتمع ، اذ فرض سياق العولمة تحدّياً نظرياً تمَثل في عدم تطابق المفهوم مع الواقع الراهن، نظراً لكثافة المتغيرات الجديدة التي طرحها هذا السياق، حيث أدرك المتخصصون في دراسة هذه الظاهرة، ضرورة إعادة النظر في مفهوم سيادة الدولة، لكن ذاك يظلُّ طموحاً نظرياً بعيداً عن التحقق الفعلي، ما لم يُدرك الباحث أننا بصدد الحديث عن انحسار النموذج الليبيرالي الغربي وانخفاض درجة قبوله في معظم الدول النامية، في مقابل بروز نماذج محلية وبديلة في هذه الدول، بما يعكس جزئياً علاقات القوة والحقائق العالمية لسيادة الدولة بين الثابت والمتغير طَرحت هذه الثنائية أسئلة مُزمنة ظلّت عالقةً إلى اليوم على الأصعدة التالية: السيادة، القانون الدولي، مبدأ عدم التدخل، إعادة تصميم قدرات الدولة ووظائفها، حافز البناء، إلخ، للوصول إلى المفهوم الحقيقي لبناء الدولة ينبغي تتبع هذا المفهوم نظرياً وواقعياً في خضم التغيرات الراهنة، إذن ما هو التطور النظري والمنهجي لبناء الدولة حسب علماء السياسة المقارنة؟ وما هو البديل المنهجي الذي طرحته النظرية السياسية المعاصرة كمقاربة لمعالجة الظاهرة؟ 

يعد مفهوم سيادة الدولة تقليدياً وحديثاً في آن واحد، إنّ المفهوم التقليدي الذي ساد في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية الحرب الباردة، والذي تزامن مع موجة استقلال الدول من نير الاستعمار، كان یراد به إقامة مؤسسات مستقرة، تستهدف تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتحرر من التبعية والاستعمار الجديد، وتحقيق الأمن وصياغة دساتير وهياكل سياسية تقود عملية التنمية، إلاّ أنّ مفهوم عملية بناء الدولة وتمتعها بالسيادة الذي شاع استخدامه بعد الحرب الباردة، ركّز على إعادة بناء الدولة الفاشلة التي أصبحت مصدراً لتهديد الأمن والسلم والاستقرار في العالم، وكذلك على قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والمشاركة، والإصلاح السياسي والاقتصادي، ومن ثم یتوجّب على الأمم المتحدة والدول الديمقراطية الاهتمام بشأن هذه الدول ومساعدتها على إعادة بناء ذاتها، وذلك من خلال إعادة هندسة هذه الدول سياسياً واجتماعياً، لتمكينها من تحقيق الأمن والديمقراطية والاستقرار الداخلي. فهندسة بناء الدولة التي برزت بعد الحرب الباردة صاحبت انهيار الدولة في مناطق عدة من العالم وانطوى انهيارها على بروز أخطار تُهدّد الأمن الدولي.

بناءً على ذلك تباينت التعريفات حول سيادة الدولة نظراً لتداخل مرتكزاتها من جهة، واختلاف السياق الزماني والمكاني الذي برزت فيه تلك الفكرة كمفهوم سياسي من جهة أخرى، فنجد ان مفهوم السيادة مرتبط ببناء الدولة والتي تمثل عملية إقامة منظمات مركزية مستقلة ومتمايزة لها سلطة السيطرة على أقاليمها، وتمتلك سلطة الهيمنة على ذلك التنظيم ، أيضاً يشير التقرير الأوروبي حول التنمية لعام2009 بأنّ هذه العملية تركز على بناء شرعية مؤسسات الدولة وقدرتها على تقديم الخدمات الأساسية لمواطنيها: الأمن، والعدالة، وسيادة القانون فضلاً عن التعليم والصحة التي تلبي جميعها تطلعات المواطنين ، لكن هذه القدرة تظل نسبية وتختلف من دولة إلى أخرى، بل وتختلف في الدولة نفسها من حقبة إلى أخرى ، وهذا ما برز جلياً في تباين مستويات قدرات الدول على حفظ الأمن وإنجاز الرفاه الاجتماعي والاقتصادي للمواطنين.

وحسب معهد التنمية لما وراء البحار فأن عملية بناء الدولة تتجه إلى الإجراءات التي تتداولها الأطراف الدولية والوطنية الفاعلة لإنشاء وإصلاح أو تعزيز مؤسسات الدولة، وهو مصطلح يتعلق بالعملية السياسية الفعالة للتفاوض حول المطالب المتبادلة بين الدولة والمواطن من جهة، وطبيعة العلاقة التي تربط الدولة والمجتمع الدولي من جهة أخرى والتي تعد عملية ذاتية لتعزيز قدرات ومؤسسات وشرعية الدولة من خلال علاقات الدولة بالمجتمع تأكيدا لتلك السيادة، ومن المنطلق هذا نجد ان الموضوع يخضع للاحتياجات الداخلية والضغوطات الخارجية.

أما المنظور التاريخي لتلك العملية فنجد أنَها تمثل نتاجٌ للجهود التاريخية لمواجهة سلسلة من المشاكل الحاسمة مثل: الدفاع ضد العدوان الخارجي، والحفاظ على النظام الداخلي، وتوفير الأمن الغذائي ، وقد ساعدت الطريقة التي تمّت بها معالجة هذه المشاكل على تفسير الاختلافات بين المؤسسات السياسية للدول وأثبتت أنّ عملية بناء الدولة وتأكيد سيادتها تميل لأن تكون عملية عامة تتطلب تركيز القدرات الاستخراجية والتنظيمية والتوزيعية، الأمر الذي يتطلب وجود سلطة وقوة قسرية لتعزيز الموارد وتنظيم السلوك.

وعليه يتضح من خلال المفاهيم السابقة، أنّ سيادة الدولة بناء يتميز بمجموعة من الخصائص تتقاطع فيها مع المؤشرات التي تميز مفهوم التنمية السياسية، وهذه المؤشرات تُحيل على المفهوم الإجرائي الذي يمكن اختصاره في المميزات التالية:

1ـ العملية تطور وليست مرحلة أو درجة بمعنى أنّ التغيير يُشير إلى مجموعة من التطورات أو التغيرات التي تحدث في هيكل ووظائف الأبنية السياسية المختلفة، والتفاعلات والأنماط السياسية المرتبطة بها. مع ملاحظة أنّ النظر إلى عملية بناء الدولة لا يعني بالضرورة رفض فكرة وجود مراحل في إطار هذه العملية.

2ـ الديناميكية أي أنّها لا تعرف نقطة تنتهي عندها، فهي تقتضي وجود استمرارية وحركية دائمة من طرف الهياكل السياسية، بهدف تطوير النظام السياسي لملائمة ذاته وبنيته مع الظروف والتغيرات الجديدة.

3ـ النسبية كونها تكتسب مضامين متباينة بتباين البيئات الثقافية والحضارية ونسق القيم السائدة، وذلك أنّ سيادة الدولة كعملية لا تتم في فراغ ولكنها ضمن إطار تاريخي وحضاري وثقافي.

4ـ الحياد من حيث دلالته الأخلاقية أو الشكل السياسي الذي يتخذه النظام العام (السياسي والاجتماعي)، فالدراسة العلمية والموضوعية لسيادة الدولة لا تكون بالافتراض أنّها عملية حتمية سواء من حيث حدوثها أو سرعتها أو نتائجها، بل هذا ما يُحدّده الإطار التاريخي والمجتمعي للعملية داخلياً وخارجياً.

5ـ العالمية بمعنى أنّ هذه العملية تحدث في كل المجتمعات والنظم السياسية وبأشكال مختلفة، وصفة العالمية تصبح نتيجةً مترتبةً على اعتبارها عملية، كون عملية البناء تتفاوت من حيث الوتيرة ودرجة الإنجاز من الدول النامية إلى الدول المتطورة والأكثر تطوراً.

بناء على ما تقدّم، فإن سيادة الدولة تدلّ على مسار سياسي بالدرجة الأولى مضامينه وأهدافه تختلف بحسب القائمين على تلك العملية ،وأهدافهم ومصالحهم ومذاهبهم، وبحسب السياق الاجتماعي والاقتصادي السائد خلال تلك العملية ، وعليه يتضح وجود أبعاداً ترمي هذه العملية إلى تحقيقها وُفقاً للتباين في السياقات البيئية ،  بناءً على ذلك  يمكن القول أنّ السيادة كمفهوم ارتبطت بنمط الدولة التي تسعى إلى إيجادها إنّ هذا التباين الأنطولوجي الذي فرض مفاهيم متعددة حول تلك الظاهرة كدليل واضح على ديناميكية مفهوم سيادة الدولة على المستوى النظري والمنهجي.

و انطلاقاً من الفكرة السائدة في حقل المنهجية (المفهوم يُؤسّس للنظرية، والنظرية هي انعكاس للممارسة، أيضاً هي بناء مفاهيمي واضح ومُحدّد ومتّسق ضمن نموذج معرفي)، تُساورنا مساقات واقعية ومعرفية لنظرية السيادة،  فقد تحول مفهوم السيادة معرفياً من المدرسة الدستورية إلى التحليل النسقي تبعاً لمنطق الثورة العلمية عند توماس كوهن، ونفس المنطق تكرّر داخل المنعطف ما بعد السلوكي، ومع مدرسة التحديث والمنظور التنموي أيضاً في المؤسساتية الليبرالية الجديدة ونظريات الخيار العقلاني.

إنّ النظرية التقليدية لعلم السياسة تفترض أنّ وحدتها الدراسية الكبرى هي الدولة، ولكن هذه النظرية تتهاوى الآن أمام نظرة جديدة تعتبر أنّ حصر البحث السياسي بالدولة هو تضييق له، لأنّ هناك أنظمة سياسية قَبَلِية، تتجلّى فيها الظاهرة السياسية وتُمارس فيها السلطة أو القدرة بدون أن تكون القبيلة دولة بالمعنى القانوني المصطلح عليه، ويمكن اعتبار هذه النظرية الجديدة ثورة منهجية، ولذلك يُرجّح الآن في تعريف النظام السياسي الاعتبار الاجتماعي على الاعتبار القانوني أو الدستوري ، حيث تكمن الخلفية المعرفية لذلك في أنّ النظرة الدستورية التقليدية لدولة المؤسسات برزت حينما بدأ المشتغلون بالحقل يركزون جهودهم على البناء الدستوري والمتغيرات القانونية والمؤسسية، حيث سادت خلال هذه المرحلة، النزعة المعيارية والنظرية الفلسفية القائمة على النمطية الشكلية، والتاريخية فقد كانت المثالية هي السائدة في الطرح نظراً للبحث عن لتجسيد دولة القانون التي كان يُعتقد أنّها ستمكّن الفرد الأوروبي أو الأمريكي من تخطي ويلات الحرب العالمية الأولى وما خلّفته على البنية الاقتصادية والسياسية للدولة.

على الضد من ذلك جاء التحليل النُظمي النسقي كتحدّي مُقاوم للنظرية الدستورية التي أعطت أهمية بالغة للبنية والهيكل، وأهملت تحليل حركية النظام السياسي، فالسلوكية ترى بأنّ التفاعلات التي تتم في إطار هذا النظام، تمثل الدَولة أحد أشكالها، وذلك يتم في إطار العملية السياسية التي تضبط تفاعلات النظام ليصل بها في النتيجة إلى الهدف المطلوب .

ففرضية أنّ سيادة الدولة في جوهرها هو عملية سياسية لأنّ النظام السياسي في حالة حركة تفاعلية دائمة مع البيئة الداخلية والخارجية، والغايات التي وُجدت من أجلها الدولة تجد أصولها المعرفية ضمن نموذج "التحليل النسقي"، فالتأييد أو المساندة قد تكون مُوجهة للمجتمع السياسي والنظام أو الحكومة، وهذه المستويات الثلاثة هي نفسها مستويات الشرعية ، فالمساندة هي المرادف للشرعية من حيث أنّ التأييد يوفر الطاعة والولاء للنظام السياسي، أما الاعتماد المتبادل الوظيفي بين مكونات النظام السياسي  فيهدف إلى تحقيق حالة من التوازن السياسي والتكامل والاستقرار.

فالحديث السياسي يجب ان يتضمن التغيرات التي تحدث في القيم والاتجاهات والنظم والبناءات بهدف إيجاد نظام سياسي متكامل وبناء دولة المؤسسات ،وهو ما يحدد ثلاثة مقومات رئيسية للسلطة السياسية: ترشيد السلطة، والتمايز الهيكلي، والمشاركة السياسية هذه المقومات هي بمثابة متغيرات لعملية بناء الدولة عند ، والتي ترتبط بعوامل سيادة الدولة كظاهرة سياسية وهي :

  • بناء سلطة سياسية قوية واحدة تكون عامة علمانية محل السلطات التقليدية والدينية والأسرية والعرقية.
  • تطوير البنية السياسية والفصل بين الوظائف السياسية، وتتضمن هذه العملية توزيعاً للموارد على أساس الإنجاز وليس المحاباة، وترتبط أيضاً هذه العملية ببناء المؤسسات.

إذن بناء قدرات مؤسسات الدولة هو عملية بناء خيارات من خلال نظم مؤسساتية ، وفي هذا الصدد اتجهت دراسات عديدة خلال العقدين الأخيرين، إلى إلقاء الضوء على أهمية الدولة والمؤسسات، وذلك رغم استمرار الاتجاه الذي ركز على الأساس الاجتماعي، وجاءت هذه العودة للاهتمام بالدولة تحت إلحاح عوامل عديدة، من أبرزها: تعقيد وتضخم السلطة السياسية في المجتمع المعاصر، عدم استقلالية الدولة في النظام العالمي، أيضاً انعدام استقرار الدولة وضعفها الذي مثّل سمة هيكلية لكل نظم الدولة في العالم الثالث.

لقد شهد العالم مع نهاية ثمانينيات القرن الماضي تحولات دولية كبرى سياسية، اقتصادية، اجتماعية، ثقافية، أمنية وتكنولوجية، لم يسلم موضوع سيادة الدولة من التأثر بها سواءً على مستوى الممارسة أو النظرية، فما زالت الكتابات تتوالى على معالجة  موضوع نشأة الدولة وبنائها ووظائفها والتحديات التي تواجهها، والافتراضات التي تقوم عليها، وطبيعتها ومستقبلها في ظل التغيرات الجارية. لقد أدت العولمة إلى مراجعة جملة من المفاهيم وإعادة تعريفها في ضوء التطورات والمستجدات التي شهدها العالم، ومن هذه المفاهيم مفهوم سيادة الدولة والسلطة.

بناءً على ما تقدم يحتاج أيُّ بناءٍ سياسي أو نظامٍ طامحٍ للحد الأدنى من الاستقرار لتسويغ شرعيته والتوافق مع النظام الطبيعي للأشياء وإلى حجج تكون لصالح أغلبية الأفراد، أنّ المجتمع الذي تهيمن فيه نظرية مركزية واحدة موجَّهة نحو إضفاء الشرعية على السلطة السياسية محوِّلةً إياها بهذا الشكل إلى سلطة مطلقة،  فمن الطبيعي أنّ تنهار شرعية النظام السياسي بالترافق مع أزمة تلك النظرية.

وانطلاقا من السعي لتجاوز الإخفاق في التصورات حول سيادة الدولة، يجب العمل على تجريد السياسة والأخلاق من الغايات العليا معتبرين أنّ التنظيم السلمي للمجتمع الحديث يُعدّان مرجعاً واجب الاتباع ، ولم تعد الدولة موضوعاً للفكر النقدي بل صارت شأناً تكنوقراطيا تابعاً للاقتصاد والعلوم التقنية، وبمعنى آخر فقد فقدت الدولة دلالتها كسلطة عليا قادرة على ضمان حقوق كل المواطنين.

إنّ عملية بناء الدولة محورها فكرة العدل الذي يبدأ انطلاقاً من وضع أصلي كتصور إجرائي كوني مقبول من الجميع، تُحدّدُ فيه القواعد والمعايير التي تحكم المؤسسات والنظم الأساسية في المجتمع، وتنظيم التعاون والتطور الاجتماعي والاقتصادي بأقصى ما يمكن من الإنصاف الذي يقتضيه المطلب الديمقراطي.

وبناء على ذلك نجد ضرورة إعادة النظر في مفهوم سيادة الدولة، لأنه لم يبقى حبيساً للنظريات التي تفترض ان سيادة الدولة خاصة في دول العالم الثالث هو مفهوم جامد لأنّ هذا المفهوم في الأخير هو متغيّر حسب السياقات التاريخية والثقافات الإنسانية، وعلى هذا الأساس نجد ان النظرية السياسية المعاصرة تعتمد مفهوم جديد أساسه العدل والشرعية، لأنّ هذه القضايا هي من صميم احتياجات الفرد الراهنة داخل المجتمع.

ليكون الختام  بعرض لملخص تنفيذي لمجموعة من السادة المختصين بتعقيبات تناولت محاور الكتاب ، جهد متميز لمؤسسة بحر العلوم في سياق سعيها المستمر لرفد المكتبة القانونية بكل طرح متميز يرسخ مكانتها العلمية في مصاف المؤسسات العلمية والتعلمية على مستوى البحث القانوني واذكاء القضايا المصيرية وجعلها محورا لدراسات متميزة بالطرح والاهتمام ، لنكون امام كتاب متميز بطرحه واستدلالاته وبموضوعية في الطرح والنقاش وتلاقح الافكار وبيان مفهوم السيادة وفق وجهات نظر نجدها في مجملها قد اتفقت على اساسياتها وان تباينت في جزئياتها الا انها وان دللت فأنها تدلل على مهارة المحاور وسعيه لبيان الموقف من قضايا مصيرية مبرزة لذلك التميز والسبق في التعاطي مع تلك المسائل.

لنعود ومؤكد على ان معهد العلمين للدراسات العليا مثل حاضنة أمينة للآراء والمناقشات التي كانت تمثل احد مستلزمات الحوار الهادف واحترام الرأي الاخر بمهنية بعيدا عن المزايدات السياسية والاعلامية وبما يضع الرؤية العراقية السياسية والاكاديمية في موضعها الصحيح كأحد عناصر تصويب السياسة العراقية ليكون مزيجا من الفكر السياسي والاكاديمي في محاولة لكشف الاختلالات في بناء الدولة والعمل على معالجتها.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن