12 Feb
12Feb

كرم الله سبحانه وتعالى لغتنا العربية حين أنزل بها القرآن الكريم، وهو التشريف الأعلى لها، لقد اختارها الله عز وجل وأنزل بها ذلك الكتاب الإلهي العظيم، الذي فيه تبيان لكل شيء، ولم يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها، واللغة العربية جزء أساس من شخصية الأمة وسمة لامعة من سماتها، إنها لغة يتصل حاضرها بماضيها وماضيها وحاضرها لا يغلقان الأبواب المفتوحة لها بوجه مستقبلها، إنها لغة حيوية ومتجددة تمتاز بالغنى، ولها القدرة على إستقبال ما هو جديد وإستيعابه، وهي أيضا لغة إشتقاقية تتوالد فيها الكلمات بعضها من بعض، والعرب كما هو معروف تشتق الكلام بعضه من بعض، فتأتي الكلمات العربية أصيلة بعيدة كل البعد عن كل ما هو دخيل، وتمتلك لغتنا العربية من (الجذور) ما يربو على السبعة آلاف جذر، وتمتلك من (الأوزان) ما يربو على الأربعمئة وزن، إنها لغة نامية لا نائمة، ومتحركة لا جامدة، وحية لا ميتة.

والكتاب الذي أقدمه للقارئ العزيز عنوانه (من وحي البلاغة القرآنية _دراسات في التعبير القرآني _) الصادر سنة ٢٠٢١ بطبعته الأولى ضمن سلسلة دراسات فكرية /جامعة الكوفة ب (٢٠٨) من الصفحات ومن القطع المتوسط، لمؤلفه الأستاذ الدكتور عقيل عبد الزهرة الخاقاني أستاذ الدراسات العليا في كلية آداب جامعة الكوفة.

وبعد قراءتي للكتاب وجدت أن الدكتور الخاقاني قد خبر تراثنا اللغوي قراءة تبصر وفهم مستوعبا ذلك المنجم اللغوي الثر والإفادة منه في التداول والتحاور والتأليف، فيقول في مقدمة الكتاب :(من فضل الله تعالى على العرب أن أنزل خاتمة صحف السماء بلغتهم قرآنا عربيا غير ذي عوج، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى الصراط المستقيم، ويؤذن بسماوية العربية وخلودها، وقد أدى هذا الأمر إلى نشوء صلة وثقى بين القرآن الكريم وعلوم العربية وآدابها، منذ أن ولدت هذه العلوم ونمت وتطورت حتى استوت علوما قائمة بأنفسها، بل صار الكتاب العزيز أساس كل علم من هذه العلوم فسمي بحق _كتاب العربية الأكبر وسفرها الخالد _وقد وصفه الرسول الكريم بأنه :حبل الله المتين والذكر الحكيم، والنور المبين، لايشبع منه العلماء، ولايخلق على كثرة الرد، ولاتنقضي عبره، ولاتفنى عجائبه) ص١١، وفي فقرة أخرى من المقدمة يقول الخاقاني :(ولايختلف إثنان ممن أوتوا نصيبا من العربية الصحيحة، في أن التعبير القرآني تعبير فني مقصود، أريد به التأثير في متلقيه، على أن العرب قوم عرفوا بالفصاحة والبيان، فجاء القرآن الكريم معجزة بيانية خالدة، متحديا أرباب الفصاحة والبيان في أن يأتوا بسورة من مثله :"ولوكان بعضهم لبعض ظهيرا" البقرة /٢٣، وربما هذا الذي حمل الدكتور طه حسين على القول :إن القرآن ليس نثرا وليس شعرا، إنما هو قرآن، أي أن لهذا البيان خصائصه اللغوية والبلاغية والإسلوبية التي تميزه من منظوم القول العربي ومنوره) ص١٣.

وفي المقدمة أيضا :(ولم يكن الغرض من التعبير القرآني أن يسن تشريعا أو أن يحكي خبرا فحسب، مثلما هي الحال في الكتب السماوية السابقة، وإنما قصد به فضلا عن هذا كله، التأثير في متلقيه تأثيرا بيانياأو فنيا، ومن شأنه ان يحملهم على الإيمان بما جاء فيه، وهذا ماتميز به القرآن الكريم من بقية الكتب السماوية في أن المعجزة في ذاته، لذا تكفل الله عزوجل بحفظه من الضياع والتحريف والزيادة والنقصان :"إنا نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" الحجر /٩)ص١٤.

يبدأ الدكتور الخاقاني كتابه هذا بالحلقة الأولى (التناسب الإحصائي والبياني في التعبير القرآني) وهو موضوع شغل الدكتور كثيرا في تتبعه وتفحص مصادره بأناته المعهودة حتى توصل إلى كتابة حلقة علمية مفيدة وممتعة في الوقت نفسه، والتناسب لغة واصطلاحا كان بداية الحلقة هذه مستعرضا آراء معظم علماء اللغة من الذين كتبوا في هذا الموضوع، بعدها تحدث المؤلف عن بعض من وجوه التناسب الإحصائي في القرآن الكريم، مع أمثلة أوردها بالأرقام والإحصاءات مما ورد من كلمات في القرآن الكريم، فمثلا يقول :(أن "الدنيا" تتكرر في القرآن الكريم بمقدار "الآخرة" فقد تكررت كل مهما ١١٥ مئة وخمس عشرة مرة) ص٢٣، ويستمر بإيراد أمثلة أخرى عن الموت والملائكة والكفر والشهر واليوم، ومن ثم يتناول الدكتور التناسب البياني في القرآن الكريم فيبدأ بالألفاظ مع أمثلة لتقريبها من ذهن القارئ الكريم، ويتحدث بعد ذلك عن ألفاظ الواحدة في القرآن الكريم قائلا :(ثمة ألفاظ وردت في القرآن الكريم مرة واحدة، لتؤدي معاني لاتؤديها غيرها، بما يتناسب مع طبيعة المقام أو السياق الذي وردت فيه) ص٢٥، والكلمات التي يوردها الدكتور مع شرح مفصل لها هي :(حوبا) و(انبجست) و(اطرحوه) و(حصحص) و(إدا) و(قطنا) و(تفثهم) و(ضيزى) و(عزين) و(دمدم)، وينتقل المؤلف بعد ذلك إلى شرح قضية مهمة هي التناسب وجمع القرآن وقراءته، وكذلك أعطى أهمية في شرح موضوع التناسب والترادف مشيرا إلى أمثلة منها :(الرؤيا والحلم)و(الحلف والقسم) و(زوج وإمرأة) شارحا كل مفردة بمعناها الحقيقي، وعن التمايز الإسلوبي في النص القرآني يقول :(نريد بالتمايز الإسلوبي _هنا_هو أن يجري الكلام في بعض مواطن النص القرآني خلاف ماجرت عليه أساليب القول العربي وقواعده لأغراض دلالية وبلاغية، فشغل علماء العربية والمفسرون بتأويلها وكثر النقاش فيها إبتغاء الإهتداء إلى سر مخالفتها) ص٤٦.

وفي الحلقة الثانية يتحدث الخاقاني عن :(التناسب البياني بين الآيات والسور، سورالضحى، الإنشراح، القدر مثالا، قائلا :(من وجوه التناسب البياني في الكتاب العزيز التناسب البياني بين الآيات والسور، ولاسيما التناسب بين مطالع السور والاغراض التي سيقت لها، ونهايات هذه السور وبدايات السور التي تليها) ص٥٠، وفي الحلقة نفسها يأتي شرح التناسب البياني بين فاتحة الكتاب وخاتمته، وهو شرح ماتع لما جاء في سورتي الفاتحة والناس.

اما الحلقة الثالثة فقدخصصها الدكتور إلى التشخيص والتجسيم في التعبير القرآني، وهو موضوع هام جال وصال به العلماء والمفسرون في إعطاء صورة واضحة عنه، وهنا كانت للدكتور الخاقاني جولة أيضا باحثا عن التشخيص لغة واصطلاحا وفعل مثله في التجسيم، إذ قسم المؤلف التشخيص إلى :تشخيص عناصر الطبيعة وظواهرها، والتشخيص النفسي ومن ثم التشخيص العقلي، ويورد لكل منها أمثلة لآيات وردت في القرآن الكريم، وقسم التجسيم أيضا إلى :التجسيم العقلي والتجسيم النفسي وتجسيم الزمان وأنواعه العديدة منها تجسيم الساعة والليل والنهار واليوم والشهر والسنة والدهر وآخرها تجسيم الأجل، وحسنا فعل الخاقاني عندما أورد لكل تشخيص وتجسيم أمثلة من القرآن الكريم ساعيا إلى جعل القارئ متابعا ومهتما لما يقرأ، إنها فعلا حلقة ممتعة.

والحلقة الرابعة تحدث فيها المؤلف :(في آيات الصوم) ويشرع بالحديث عن الفرق بين الصوم والصيام فيقول :(الصوم :الإمتناع عن الكلام، قال تعالى :"إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا" مريم /٢٦، اما الصيام فيراد به الصوم عن الطعام والشراب والنكاح، قال تعالى :"ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون......." البقرة /١٨٣، ومن ثم يبدأ بشرح واف لهاتين العبارتين اللتين فرضهما الله عزوجل على المسلمين، مستعرضا ماورد في القرآن الكريم من آيات تخص الصوم والصيام.

في آيات الحج هو عنوان الحلقة الخامسة وبدأها قائلا :(الحج لغة :القصد، حج إلينا فلان :قدم، وحججت فلانا :قصدته، ورجل محجوج :مقصود) ص١٥٠، ويورد الدكتور ماجاء في القرآن الكريم من آيات تخص الحج ويشرحها شرحا وافيا، وفي الحلقة نفسها يتحدث الخاقاني عن قضية مهمة وكان له رأي جرئ وشجاع فيها فيقول :(إذن "الحج أشهر معلومات" أي أن زمنه ثابت معلوم معروف لايتغير "عمرة التمتع +الحج" ويكون في ذي الحجة الذي يقابل كانون الأول من السنة الشمسية، وهو أول شهر من أشهر شتاء مكة ومحيطها، وقت إدراك العشب والفواكه واعتدال الهواء، ليسهل على الجميع السفر إلى مكة وأداء مناسكهم، فضلا عن تبادل السلع المادية الوفيرة في هذا الموسم، ويكون ملائما أيضا للتبادل الثقافي بين الأمم والشعوب والقبائل في هذه البقعة التي يجتمعون فيها، ويكون الصوم في أيلول، لذا أجاز الله تعالى الإفطار لمن يطيق الصوم، أي يتحمله بمشقة، وبهذا لانضطر إلى الإحتيال على الدين، كما كان الجاهليون يحتالون على تسلسل الشهور وتسميتها، وكما كان اليهود يحتالون على صيد البحر في يوم السبت، إذ يلقون شباكهم يوم السبت ويرفعونها الأحد، وكما نحتال نحن _اليوم _في أداء بعض الأعمال او العبادات، ولاسيما الصوم، كالسفر المفتعل لأجل الإفطار وكذلك الإحتيال في بعض أنواع الربا) ص١٥٧.

وفي الحلقة السادسة والأخيرة كان الحديث (في آيات الربا) فيقول :(عني الإسلام بقضايا الاقتصاد والمال عناية خاصة، لما لها من آثار بالغة في حياة الناس كافة، يشهد بذلك هذا الحشد الكبير من الآيات المتعلقة بالمال والعمل والضرائب التي زادت على ثلثمئة وخمسين آية، فضلا عن آيات الملكية الخاصة والعامة وتحريم الإكتناز والإستغلال، لبناء نظرية إقتصادية شاملة ومتكاملة، بما يتناسب مع طبيعة التطور الحضاري والإقتصادي في كل زمان ومكان) ص١٥٩، ولم يستطع علماء الإقتصاد في الإسلام ان يتفقوا على نظرية اقتصادية إسلامية شاملة ماعدا بعض الأحكام الشرعية حول الضرائب والمال، وفي آيات الربا عالج الدكتور هذه الآيات وحللها وفق المنهج البياني في ضوء الواقع اللغوي الذي ينتمي إليه النص القرآني نظرا وتطبيقا، فيقول :(من اللافت للنظر أن جميع الأديان والحضارات القديمة قد رفضت فكرة الربا أو أن تكون الأموال منتجة في ذاتها) ص١٦٤، بعدها يقف الدكتور علي اسباب تحريم الربا في الشريعة الإسلامية ويوجزها بسببين هما :أسباب أخلاقية واجتماعية وأسباب إقتصادية، ويذكر بعد ذلك آيات تحريم الربا في التعبير القرآني ذاكرا أكثر من عشر آيات حول هذا الموضوع مع شرح مفصل مفيد لهذه الآيات القرآنية.

كتاب الدكتور الخاقاني هذا كتاب مهم ومفيد للكم الهائل من المعلومات التي نحتاجها دائما، إنه كتاب واجب قراءته. مدينة مشهد /١٤ تموز ٢٠٢٢.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن