15 Jul
15Jul

كتب : د . سعد سلوم

في ذكرى 14 تموز من كل عام ينشأ جدل صاخب (أغلبه عاطفي) عن هذا الحدث المحوري.


مثل غيري- من الكتاب والباحثين- ساهمت في هذا الجدل بوضع أفكار عديدة على الطاولة في موسم تموز السنوي الصاخب، منها فكرة السيناريو البديل : ما مصير العراق لو لم تحدث ثورة 14 تموز؟. 

وايضا طرحت في العام الماضي فكرة الاستمرارية، وهي فكرة بدت مستفزة لبعض مؤيدي الثورة وعشاقها في ضوء تحديها لفرادة الثورة وايقونتها.


اعتقد أن المزيد من الجدل الموضوعي يمثل (أوكسجين ضروري) لتفسير وإعادة تفسير لحظة 14 تموز وغيرها من اللحظات المفصلية في تاريخ العراق المعاصر (الحرب مع ايران، غزو الكويت، الغزو الاميركي، غزو داعش الخ. )


صحيح أن المؤرخين يتعاملون مع الماضي ، إلا أنهم يفعلون ذلك دائمًا بطرق يتم تشكيلها من قبل المجتمع والروح الثقافية والسياسة والأنظمة السائدة في حاضرهم. اي انه يرون الماضي في عيون الحاضر ومحدداته ومهيمناته.


تهتم دراسة التاريخ بشكل أساسي (ليس بالحقائق الميتة والأحكام العقيمة والنهائية)،  ولكن بالحوارات المشحونة والخلافات بين الرؤى والاختلافات بين السرديات وتغيير مراكز الاهتمام بين سارديها، مع تغيير المنهجيات والخطاب في الموضوع مع مرور الوقت واستقبال الجمهور وتغير موازين القوى.

حرائق التاريخ


في ذلك الوقت كان ماكس مالوان عالم الآشوريات وزوج الروائية إجاثا كريستي يتأمل الهيكل المحروق للسفارة البريطانية وقال وهو يحك الحائط بأصبعه: "انه حريق بدرجة سيئة، ولكن حدث ما هو أسوأ من ذلك في بعض قصورنا في النمرود


وأضاف قائلا للسفير البريطاني : "أنت تعرف أن مثل هذه الحرائق حدثت مرات عدة في تاريخ العراق".


وسنسمع من يكمل هذه الجملة بالقول : . لهذا هي تحدث الان، وستحدث غدا.


اسئلة  بطريقة التاريخ البديل (ماذا لو لم تقع الثورة)؟'


١-، هل كان وجه العراق سيتغير ومصيره يختلف كدولة تمتلك إمكانيتي النجاح اللتين تفتقر لاجتماعهما دول الخليج وأعني بذلك النفط مع السكان.


٢-هل كان بلد الرافدين سيتحول حقا إلى بلد الروافد الثلاث: دجلة والفرات والنفط، بدلا من أن يتحول إلى بلاد الحروب الثلاث 1980 و1991 و2003.


٣-ماذا لو استمر النظام البرلماني الملكي طيلة الأعوام 1958- 2003 (على الرغم من شكليته وعيوبه وانحرافه).


٤-ماذا لو استمر العراق حجر الزاوية في حلف بغداد ونجح الرهان الأميركي على العراق بوصفه مركز الثقل في تحقيق التحول الديمقراطي في المنطقة في الخمسينيات من القرن الماضي.


٥-هل كان نفط العراق ليتحول إلى نقمة، وشعبه إلى عبد ايديولوجي لتوجه سلطوي شمولي؟.


٦-بلغة مجلة الايكونوميست البريطانية ماذا لو لم يهرب الحصان العراقي من الإسطبل الانكليزي وبقيت أبواب الإسطبل محكمة الإغلاق، هل كان البعثيون ليصلون إلى السلطة؟


٧-هل كان سجل المقابر الجماعية وجرائم إبادة الشعب ستختفي دون رجعة وتحتفظ البلاد بنخبها وعلمائها ومثقفيها وأجيالها وتتراكم الخبرات والثروات؟


٨-هل كانت الاحداث التالية ستختفي : الحرب مع ايران وغزو الكويت وسنوات الحصار واحتلال اميركا وغزو داعش، ؟

يا ليتها لم تقع ؟!!!


نهاية الثورة : شرورها وميراثها الدموي


تفتح الثورة صندوقا من الشرور والجرائم والمذابح، منذ الثورة الفرنسية التي كان من نتائجها مذبحة فندي وتدمير اوربا في الحروب النابليونية.


تنشر الثورة جنونا وهوسا جماعيا بالانقلابات والمؤامرات والبيانات ذات الرقم واحد، وصور الزعيم الذي أصبح نزعها أو تمزيقها تهمة رهيبة(ميراث ما يزال حاضرا بقوة في صور (تيجان الرؤوس) التي تحتل المجال العام وتختقه).


تنشر صورة الانقلابي الذي ينتظر "نضج الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للثورة" ثم يأتي مع ضباطه العسكريين على دبابة لقطف الثمرة/ الدولة. (كم من ثورات قطف ثمارها انقلابيون ركبوا على ظهر الثورة!).


صورة تتطور فيما بعد إلى تصفية الرفاق الثوّار، فالثورة تأكل أبناءها كما يقال. أليس هذا شائعا في معظم الثورات منذ ثورة 14 تموز الأولى في فرنسا 1789؟


ألم تأكل الثورة عبد الكريم قاسم نفسه الذي لا تقل نهايته مأساوية عن نهاية الأسرة الملكية؟ (أعدمه البعثيون في مقر مبنى التلفزيون العراقي خلال انقلاب شباط/ فبراير 1963).


ثم ألم تكن تلك المظاهر مطبوعة بقوة على خلفية ثورة 17 تموز1968 البعثية التي مضى بها صدام حسين إلى نهايتها القصوى في محاكمة وإعدام رفاقه عام 1979؟


كل تلك الأسئلة تدفع الناس لاستذكار كلمة الثورة بحذر وخوف هذه الأيام حيث لم يعد هناك أحد يؤمن بأن الثورة طريق الدولة

قاسم : الزعيم والشهيد والنبي


طريقة المقارنة مع الواقع الراهن والقبيح، تجعل من قاسم نبيا، وتظهر صورة أخرى لقاسم ولـ "العراق الثوري" ما زالت مطبوعة في المرويات الشعبية: قاسم ذاك الرجل المتواضع الذي يتناول غداءً تعده زوجة أخيه، يتناوله مع ضباطه.


يتجول ظهرا في الأسواق، ويتناول الطعام مساءً في أحد مطاعم بغداد الشعبية مثل الانبياء القدماء، وينزل من سيارته ليتحدث مع صاحب الفرن، ويوزع سندات التمليك على سكان أحزمة البؤس حول العاصمة،.


حتى أن أولئك البسطاء من محبيه ما زالوا يصرون على أنهم رأوا وجهه ينعكس على القمر ليلة مقتله على يد البعثيين في 1963.


لقد رسخت صورة المؤسس الفعلي للجمهورية كنصير للطبقات المسحوقة مع صورة المتسامح الكبير الذي يعفو عن أعداءه، وهي صورة أخاذة تثير العجب مع ما عرفه العراقيون من قسوة استثنائية من حكامهم، فعبارة (عفا الله عما سلف) التي أطلقها عبد الكريم قاسم على البعثيين الذين حاولوا اغتياله في شارع الرشيد ببغداد (أحدهم صدام الذي نجح في الهرب إلى القاهرة) مثلت موقفا استثنائيا تبرز الحاجة الدائمة إلى استلهامه مع شيوع ثقافة الثأر والانتقام.


هناك أيضا صورة الزعيم ذي التوجه الوطني صاحب كلمة(العراق أولا) التي ميزت سياسة قاسم حتى انتهى به المطاف إلى سحب عضوية العراق من الجامعة العربية.


وهناك صورة القائد الوطني الذي حرر العراق من ربقة الاستعمار وأصدر قانون رقم 80 لعام 1961 الذي شكل ضربة لعمل الشركات النفطية البريطانية في العراق.


هل تعد الثورة حدثا محليا؟ وهل الجدل حول دلالات الثورة، عراقي محض ؟!
من يقرأ عالم الاجتماع الاميركي ايمانويل ولرستاين يتزود ببصيرة عالمية لتفسير الاحداث، فنظريته عن النظم العالمية تفسر مختلف الاحداث والتحولات خلال القرون الأخيرة.


من وجهة نظري هي افضل ما يمكن ان يفسر الثورة كظاهرة عالمية : الثورة الفرنسية، الثورة الروسية، ثورات القومية العربية، الثورة الاسلامية في ايران، ثورات الربيع العربي …..الخ


هل كانت الجهورية امرأة جميلة حقا؟


في الاسابيع التي تلت ثورة اليمن 1962 أخذ رجال القبائل يتوافدون على المدينة حين ذاع نبأ الاطاحة بالإمام. وحين سئلوا عن سبب مجيئهم أجابوا أنهم سمعوا أن امرأة جميلة اسمها "جمهورية" ظهرت هناك ويريدون رؤيتها.


يرى المؤرخ "فريد هاليداي" ان رجال القبائل كانوا محقين... ففي مطلع القرن العشرين انمحت السلطة العثمانية في تركيا والشاه القاجاري في ايران ولم يبق سوى السلطان العلوي في المغرب،


قبلهم آل رومانوف في روسيا 1917 ومهراجات الهند بعد العام 1948 ، سلاطين الجنوب العربي قد ولوا وسقط امام اليمن شمالا، سلسلة دومينو شملت مصر العام 1952 والعراق 1958 وليبيا 1969، والنظام الملكي اليوناني 1967 ومحمد زاي في افغانستان 1973 والاسرة السليمانية في اثيوبيا 1974


خيبة الأمل بالجمهوريات


وعلى الرغم من أصرار عبد الكريم قاسم على الطابع المحلي لثورته، فقد كانت جزءا من تيار عالمي شامل، اذ نزعت الشرعية عن النظام الملكي بمؤثر المحاكاة و اجتاح النظام الجمهوري المنطقة


غيرت هذه الانقلابات/الثورات عالمنا الى الأبد، من دون ان يعني ذلك تحوله نحو الافضل، اذ تبقى هناك امكانية حدوث الامور على نحو أخر. او على الأقل نتمنى لو لم تحدث ثورة على الاطلاق


بعد اكثر من خمسين عاما من قيام الجمهورية، يزخر الوجدان الشعبي باسئلة مشروعة، لا تنحصر بالعراقيين فقط، بل تنسحب على شعوب عربية أخرى ذات تجارب مماثلة، وهي تعبر عن خيبة أمل هائلة بالأنظمة الجمهورية وفشل مشروع الحداثة التي وعدت به ثورات حرق المراحل والتخطيط الاشتراكي والتنمية الشاملة.


رد الاعتبار للنظام الملكي


النتائج التي وصلنا إليها بعد نصف قرن تدفع لإعادة التفكير بالثورة ومساءلتها، وربما يتضمن ذلك رد الاعتبار للنظام الملكي والتسامح معه، وهو أمر بات أشبه بحالة عربية عامة بعد انقشاع غيوم العمى الثوري.


في مصر يعاد النظر في فاروق وفي تونس اتجاه لرد الاعتبار إلى الأسرة الحسينية التي خلع الحبيب بورقيبة آخر ملوكها وانتزع ممتلكاتها، وقد لاتكون مذكرات الشاعر الكبير الجواهري آخر عمل عراقي يتحدث عن ايجابيات العهد الملكي ويظهر العهد الثوري في صورة سلبية


لذا قبل ام اختتم هذه البوستات عن كشف الحساب مع ثورة 14 تموز أقول، ان النقاش عن (الثورة والزعيم) الذي يراه العراقيون في فيس بوك وتويتر تعبيرا عن الانقسام ، هو في جوهره جدل اقليمي وعالمي

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن