د . خالد المعيني : مدير مركز دجلة للدراسات والتخطيط الإستراتيجي
أولا - الصراع والحرب في غزة
ثانيا - تداعيات الطوفان محليا
ثالثا – تداعيات الطوفان إقليميا
رابعا – تداعيات الطوفان دوليا
خامسا – مشاهد مستقبلية للصراع
أولا - الصراع والحرب في غزة
إتخذ منحى عمليات المقاومة الفلسطينية منذ نصف قرن مسارات مختلفة ، ففي الوقت الذي إتخذت فيه بعدا سياسيا ثوريا ينسجم مع تراتبية النظام الدولي وثنائية أقطابه وشيوع حركات التحرر الوطني في حينها ، نجد إنها ومنذ مطلع التسعينات قد نحت لتتخذ بعدا دينيا عقائديا من خلال حركات المقاومة الإسلامية ، يقابلها في ذات الوقت بعدا دينيا صهيونيا لهوية الدولة العبرية ، وإذا كان البعد السياسي للصراع قابلا للتفاوض ويخضع لقانون اللعبة غير الصفرية ، فإن الصراع الديني العقائدي هو الأكثر خطورة وقسوة وتطرفا كونه يؤمن بقواعد اللعبة الصفرية بمعنى لاتوجد حلول وسط فالهزيمة وجودية لا تنتهي إلا بزوال الآخر .
يعرف الصراع في جوهره على إنه تنازع إرادات بعكس الحرب فهي إصطدام مادي للبشر والمعدات وهي إحدى محطات منحنى الصراع ، عليه فإن ماجرى في 7 أكتوبر ، يعد تبدلا جوهريا ومفصليا في سياق الصراع الفلسطيني – الصهيوني، وأحدث تغييرا كبيرا في ميزان تنازع الإرادات التي كانت تبدو عشية طوفان الأقصى إن الميزان قد إختل تماما لصالح الكيان الصهيوني لا سيما في ظل هرولة الأنظمة العربية للتطبيع .
يقوم كيان إسرائيل منذ تأسيسه على ركيزتي (ضمان الأمن وتوفير الرفاه) ، وخاضت كافة حروبها مع الجيوش العربية خارج حدودها للحفاظ على هاتين الميزتين، مستخدمة في سبيل تحقيق ذلك تفوقها النوعي التكنولوجي والعسكري وأسلحتها النووية مدعومة بصورة مطلقة من الغرب بكل ثقله وإمكاناته قانونيا وماليا وعسكريا وإستخباريا فهي كما يقال الولاية الحادية والخمسين للولايات المتحدة الأمريكية .
ثانيا - تداعيات الطوفان محليا
لقد أحدث هجوم طوفان الأقصى في 7 أكتوبر شرخا ليس من السهل تجسيره على مستوى هاتين الركيزتين ( الأمن والرفاه ) ،فقد تم من خلال حجم الخسائر البشرية والاقتصادية وكذلك عدد الاسرى الهائل ، إذلال وكسر إسطورة أمن الكيان الصهيوني ووهم تفوقه في أوج غطرسته ، وتم سحقها من قبل "كوماندوز" فلسطيني بقوة وإستهانة وتفوق قتالي مطلق ومباغتة لا يمكن تصورها ولو في الخيال لأعتى قوة عسكرية وأقوى قوة تكنولوجية لاسيما بأجهزة الإستشعار والتجسس .
ربما لوكانت هذه المعركة قد جرت في دولة ثانية ستكون مجرد حلقة عادية يمكن جبرها ، ولكن في ظرف الكيان الصهيوني وفي مفهوم الأمن النفسي والمعنوي للفرد الإسرائيلي الذي ترسخ بعد هجوم طوفان الأقصى بأن نظامه نمر من ورق وإن جميع تحصيناته التقنية والأمنية قابلة للإختراق بسهولة من قبل الفدائيين الفلسطينيين الذين خلال لحظات قد يشاركوهم شققهم ومساكنهم ، لقد فقدوا الأمن وهو شيء لا يمكن للكيان إسترجاعه ولو أباد الكيان نصف سكان غزة – وهو ما يحصل حاليا - من خلال عمليات جبانة برمي آلاف الأطنان من المتفجرات على المدنيين العزل، كدليل على الإنكسار وتعبير عن الفشل وعمق الهزيمة ، خاصة وإن الجميع يدرك بإنه لا يوجد توازن أو تكافؤ في القوى والإمكانات المادية بين المقاتلين الفلسطينيين والجيش الصهيوني .
ثالثا – تداعيات الطوفان إقليميا
على المستوى الإقليمي كشفت هذه الحرب وما يتمخض عنها يوميا من مجازر بحق السكان المدنيين ، هشاشة الأمن القومي العربي وعجز وتخاذل الأنظمة العربية بشكل فاضح يبعث على الخزي والعار وكذلك وقعت هذه الحرب شهادة وفاة العجوز الشمطاء المنقرضة ونقصد بها جامعة الدول العربية والتي أصبحت شيء من الماضي.
تعد إيران الدولة الإقليمية الأولى المستفيد الاول من هذه الحرب ، كقوة مؤثرة في الصراع مع إسرائيل من خلال إمتلاكها القدرة على التحكم بمصادر الخطر في خاصرة إسرائيل المتمثلة بفصائل المقاومة المسلحة العربية ، الأمر الذي يستدعي من الغرب التعامل والتفاهم معها وليس مع العرب في تفادي تضييق أو توسيع نطاق هذه الحرب والتي يعتقد إن هجوم طوفان الأقصى عبارة عن براءة إختراع إيرانية لم يكن لحركة حماس تنفيذها وهي محاصرة عربيا قبل خنقها إسرائيليا ، لولا الدعم الإيراني المباشر وغير المباشر، مما يعمق من مكانتها كدولة إقليمية ذات نفوذ قوي في الشرق الأوسط، وهو هدف إيراني مركزي حققته بنجاح دون إطلاق رصاصة واحدة في المعركة .
الموقف التركي في هذا الحرب ، وفي حال فصلناه عن الموقف الشعبي التركي المتعاطف والمتضامن، فإن الموقف الرسمي التركي من الناحية العملياتي جاء باهتا وضعيفا ولم يرتق لحجم الشعارات التي كانت ترفعها طيلة الفترة الماضي .
مصر والاردن والسلطة الفلسطينية دول خاسرة في هذه الحرب ، فقدت الكثير من مكانتها السابقة في معادلة الصراع العربي – الصهيوني فالشلل الذي أعتراها والعجز في تقديم العون ولو الانساني لسكان غزة عبر معابرها إضافة لبقية الدول العربية المطبعة وضعها في حالة حرج كبير مقارنة بموقف شعبي عربي موحد متضامن مع القضية الفلسطينية ضد الكيان الصهيوني، مما يضع مشروعية ومستقبل هذه الأنظمة في مهب الريح، وقد يكون لعمق هذه الفجوة ما بين الشعوب والانظمة نتائج لا يحمد عقباها وربما تعبر هذه الشعوب عن رفضها لأنظمتها بوسائل أخرى عدا المظاهرات .
الموقف العراقي يتراوح ما بين الموقف الرسمي المقيد بشروط إتفاقية الاطار الاستراتيجي بين العراق وأميركا والتي تجبر الحكومة العراقية بضمان أمن القواعد الامريكية في العراق، إضافة الى التحكم الامريكي بمقدرات الاقتصاد العراقي ، وبين موقف ماتناقض لفصائل مسلحة في شمال العراق هي الأقرب للموقف الامريكي – الأسرائيلي ، وبين موقف فصائل مسلحة عراقية أخرى هي الأقرب الى الموقف الإيراني – الفلسطيني وقد باشرت فعليا في قصف القواعد الامريكي شمال وغرب العراق، مما يزيد من ضبابية الموقف العراقي وتذبذبه .
رابعا – تداعيات الطوفان دوليا
جاء توقيت الحرب في غزة ليصب بمصلحة روسيا بالدرجة الاساس على مستوى الصراع الدولي الدائر في أو كرانيا فبعد أن كانت أخبار الحرب في أوكرانيا تتصدر إهتمامات الغرب وأمريكا ، ينصب الاهتمام حاليا وسط انحياز غربي كامل ومطلق لإسرائيل وكيفية دعمها ماليا وعسكريا واستخباريا ، مما أعطى فرصة ذهبية لروسيا لإلتقاط أنفاسها وأتاح هامش حرية كبير في إدارة الحرب في اوكرانيا وبضغوط أخف ،فليس من السهل على أوربا وأميركا ادارة الصراع على جبهتين في آن واحد .
من جهته اثبتت حرب غزة زيف وأكذوبة النظام الدولي ومصداقية المحكمة الجنائية الدولية ، هذه المحكمة التي سارعت في إعلان الرئيس الروسي بوتين "كمجرم حرب" في أو كرانيا ، في حين تلتزم الصمت المطبق أمام أفضع كافة الجرائم التي هي من إختصاصها، كجرائم الحرب وجرائم الإبادة الإنسانية وجرائم الإبادة، والتي ترتكبها إسرائيل بحق الاطفال والنساء، وسط صمت دولي ووصمة عار يندى له جبين الإنسانية في التاريخ الحديث والمعاصر .
من جانب آخر جاءت حرب غزة لتعمق من الشرخ والانشقاق داخل مجلس الامن الدولي بين أميركا وأوربا من جهة وبين الصين وروسيا من جهة أخرى والذي تجسد بإستخدام متبادل لحق النقض الفيتو لنقض مشاريع مقدمة لوقف إطلاق النار من قبل المحورين، الأمر الذي يكشف عمق الخلاف ويمهد عن ملامح حرب باردة جديدة ويعجل ظهور نظام دولي جديد لا يزال قيد التبلور .
خامسا – مشاهد مستقبلية للصراع