21 Jul
21Jul

 كتب : نعيم عبد مهلهل 

أعتبر العطش الروحي أقسى أنواع العطش ، وها هو يضرب منطقة الأهوار بأعاصيره ، وحين يتحد عطش الماء مع عطش الروح فأن اليباب سيحل في المكان وستموت الحياة في كل أشكالها ، لهذا كان السومريون القدماء يضعون آلهة الماء في أول المراتب لأن الماء يمنح للحياة ديمومة الاستمرار ومع الهواء يشكلان ذاكرة الوجود الإنساني ، لهذا بقيت حين أتجول في روح المكان وذاكرته ابحث عن منابع تسقي حلم البشر وأنا أدون على الطين ذلك المثل القرغيزي الذي يقول :لا نعرف العطش إلا عندما تجف الينابيع . 

وهاهما ضرعا دجلة والفرات يقتربان من حافة الجفاف بسبب ما يعرف اليوم بمصطلح حرب المياه.

أن موت نهر في المصطلح الاستعماري يعني إحراق ألف مدينة. 

وعندما تموت المدن ، يلتحق فيها سوادها المنتشر حولها ، القرى والقصبات وكل عشر بيوت مجتمعة ، والأهوار تتصل بالمدن من خلال فم النهر إذن هي ربما في طبيعتها قد تموت قبل مدنها وبذلك تتعاكس مع المصطلح ، إنها تحترق قبل الجميع عندما لا يكون هناك ماء .

فالمدن قد تستطيع أن تحفر آباراً في براريها وتأكل من سمك البحر وتعوض لحم الدواب بالدجاج ، أما الأهوار فإن مات فيها السمك والطير والجواميس فما الذي يتبقى لها ..؟ 

حتما سيبقى القصب اليابس والأرض المالحة والصمت وانعدام الحياة التي لم تكن لتبتهج في يوم ما سوى مع الموج ورقصته الأزلية التي تداعب جنح البط وموال الصياد ونعاس قصب البردي.

يقول بوذا في واحد من تعاليمه التي وجدتها مدونة على جدران معبد بوذي في مدينة حيدر آباد الهندية : إن الروح العطشى تفقد القدرة على تذكر موجة النهر ، وهذا يعني إن العالم سيفقد سيره صوب النور.

ومثل هذا ستفقد تلك المناطق في عطشها قدرتها على السير. 

فالماء بالنسبة لتلك الأمكنة لا يمكن الاستغناء عنه ليس للشرب فقط بل إن الفعاليات الحياتية قائمة عليه في مجملها ، لقد كان سكان الأهوار يحملون أينما كانوا ذلك المعتقد الذي يقول نحن من الماء واليه وكأنهم ينسون رؤية الديانات السماوية القائلة نحن من تراب وآدم من تراب. 

فالماء يمثل الحاجة الأبدية لبناء الكيان ومعه لا يشعر الإنسان سوى بالأمان والراحة وعدم التفكير بالجوع والعوز. 

لكن ما نراه اليوم يكاد يكون أشبه بموت بطئ لتلك الحياة البريئة التي توارثت المسرة وذاكرة العقل منذ بدايات اللوح والكلمة والحلم .فقديما كان أبناء بطائح سومر يقيمون مودتهم الحياتية مع الماء ، وكان شعار الحياة في بلاد الرافدين تلك الكف التي تحمل الإناء النذري والذي يفيض ماء دجلة والفرات من جانبيه ، في دالة على أن الماء كان يمثل الحياة في كل عناصرها ، وعليه فإن الراغب في إلغاء هذا الشكل المتميز من العالم إنما يقترف جريمة حرب وإبادة جماعية ضد موجدات الوجود الطبيعي الأول الذي رسم على الأرض بدايات التفكير بمساحة الود مع السماء ومع القصيدة ومع الوردة. 

سيكون المشارك في تلك الإبادة مجرماً ، وسيكون السد الكونكريتي مجرما أيضا ، وحتى تراب السداد والعاجز عن عمل شيء ، فليس قدر تلك الأمكنة أن تموت كل يوم ، مرة من ثوراتها الحالمة وبساطتها والتشكيك في جذورها وانتمائها ، ومرات من العطش ومحاولة إلغاء وجودها الأزلي ودفع أهلها للهجرة ، كما تنقل اليوم نشرات الأخبار عن بدء سكان الأهوار النزوح عن مناطق سكناهم بسبب انقطاع المياه عن المكان .

تلك المرثية التي تهطل جافة على خد العراق وتضاريسه ،لن يستطيع ان يعيد الفرح اليها سوى الماء .اما تصريحات الوزير او اي مسؤول في الدولة له علاقة بالأمر فأنها لم تفعل شيئا الى الآن.لهذا اصبحت الأهوار قريبة جدا من عطش العباس ع . 

وعلينا أن لانستسلم الى حزن المراثي ، إذا لابد ان نفعل شيئا كيف نوقف دمغة رجل الاهوار وهو يرى رقبة جاموسته تذهب الى سكين الجزار بسعر رخيص.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن