24 Apr
24Apr

كتبت : د. لقاء موسى الساعدي 

يوميا يصدر عشرات الكتب عن دور النشر المتنوعة، لكن بعض الاصدارات تمتلك اهميتها من اقتران المعالجات التي تطرحها مع المشكلات الانية التي تعاني منها المجتمعات، ومن هنا تاتي اهمية كتاب الطبقة القائدة/ دور الكفاءات الوطنية في بناء الدولة المدنية، للدكتور خالد المعيني، الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت 2017 الذي يضع معالم مشروع لاعادة بناء الطبقة الوسطى في العراق . والكتاب ياتي تحت عنوانات رئيسية تشرح محتويات الكتاب واهميته بدءاً من غلاف الكتاب الذي تضمن عنوانا اخر( قوانين نقل القوة من الدولة الى المجتمع) وعلى الغلاف الخارجي وضع عنوان ( دراسة في جذور وواقع ومستقبل الطبقة الوسطى في العراق). كما لابد من الوقوف عند لوحة الغلاف التي تضمنت رسما حاسوبيا لقوس جامعة بغداد (الجامعة العراقية الام)، ويبدو ان الكاتب اراد ان ينقلنا منذ صفحة الغلاف الى الفكرة التي يحملها هذا القوس كما وضعها مصصم قوس الجامعة ( والتر كروبيس)) وهي المعرفة المفتوحة التي لاتقف عند حدود وتتوسع وترتفع دائما الى اعلى.

وفي الكتاب الذي تضمن ستة فصول يقدم الدكتور المعيني تعريفاً وحدوداً للطبقة الوسطى فيرجع جذور المصطلح الى اواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر في ضوء التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها اوربا، ويذكر ان تعريف الطبقة الوسطى مر بثلاث مراحل حتى الان هي:

1- انحصرت الطبقة الوسطى في بداية نشوئها بأصحاب الحرف وصغار التجار والموظفين


2- لاحقا اضيف اليها مايعرف ب(( اصحاب الياقات البيضاء)) من اطباء، ومحامين، ادباء، ومعلمين، ومهندسين، وصحفيين كعناصر اساسية في تعريف حدود الطبقة الوسطى


3- الثورة التكنلوجية اضافت مفهوما جديدا للطبقة الوسطى فقد تحول العلم نفسه الى قوة انتاجية مباشرة ومسيطرة على حركة المجتمع، تبعا لقوة وفاعلية المعرفة والمعلومات المؤثرة في المجتمعات

ثم يضع التعريف الذي يتبناه كتاب الطبقة القائدة للطبقة الوسطى وهو:((الطبقة الوسطى هي الطبقة التي يحدد سقفها العلوي القلة الحاكمة التي تمتلك السلطة والثروة الفاحشة، وتستند قاعدتها الى طبقة العمال والفلاحين والكسبة وبقية الشرائح المعدمة في قاع المجتمع، فيدخل فيها شريحة صغار التجار والحرفيين التي شكلت اساس تكوين هذه الطبقة في نشوئها المبكر، ومن طائفة واسعة من المثقفين، مثل المهندسين والمحامين والاطباء والمعلمين والصيادلة والضباط والفنانين والصحفيين وموظفي الدولة، يضاف اليهم شريحة الطلاب، ويحدد انتماء اي شخص للطبقة الوسطى امتلاك الوعي المبكر والمتقدم المستند الى معرفة تؤهله لادراك مسؤوليته تجاه المجتمع، وبالتالي لاقيمة وليس ضمن حدود هذه الشريحة من يحمل درجة من الوعي الناجم عن التحصيل العلمي غير مقرون باداء دوره في تطوير مجتمعه من خلال القيام بنشاطات تمس مصالح المجتمع وليس مصالحه الذاتية والفردية فحسب)). اذن الانتماء للطبقة الوسطى يشترط المشاركة الفعالة في النشاطات االاجتماعية الهادفة لتغير المجتمع ومراقبة سلوك الساسة في السلطة، وليس الحصول على شهادات خبرة تعليمية فقط.

ومن الامور المهمة في الكتاب ايضا الفرق بين الطبقة الوسطى ومفهوم النخبة  اذ يضع المعيني فرقاً بين المصطلحين بقوله ((مفهوم النخبة مصطلح يصف صفوة من الناس منعزلة عن ارادة الجماهير ومطالبها تعبر عن شريحة او فئة داخل جماعات مغلقة، قد تكون برجوازية او ارستقراطية متعلمة لكن تظل منعزلة عن الجماهير، اما الطبقة الوسطى فهي تلك المرتبطة مصالحها مباشرة مع الجماهير الفقيرة لانها تطور لهذه الجماهير ولسان حالهم والمعبر عن احتياجاتهم)).

كما اشتمل الكتاب على خصائص الطبقة الوسطى التي بدونها تفقد هذه الصفة اهم مقوماتها التي هي:العمل كمرشح: وهي ممارسة دورها كفلتر او مصفاة يعقلن طلبات الجماهير ويضيف مستوى من النضج اليها حين تقدم الى الاقلية الحاكمة والمحتكرة للسلطة والمال، التاثير والانجاز،الانحياز الى الجماهير الفقيرةالعقلانية والواقعيةالديناميكية والحيويةالوعي وعدم الانقياد والابتكار والابداعالتسامح وعدم التعصب، القوة الذاتية، الانفتاح على المعارف، الاستمرارية بانتاج المزيد من الكفاءات والمهارات ودفعها في المجال الاجتماعي.


كما قدم الكاتب مشاكل وعيوب الطبقة الوسطى التي حصرها في امرين: الاول عدم الاستقرار فذكر ان نشوء الطبقة الوسطى في اوربا كان نتاج مخاضات اجتماعية وسياسية واقتصادية انتجت فكرا معاصرا مكنها من انتاج قوانين لصالحها وبالتالي فرض وتغيير الانظمة السياسية وانتاج القيم التي تصب في مصالحها ومصالح الطبقات الفقيرة، اما في المجتمعات قيد النمو فان هذه الطبقة كانت نتاجاً للسلطة التي امسك بها العسكر لاحقا، لذا فهي رجراجة وهشة ومصابة بتشوهات في الرؤية، تراوح مكانها في كثير من الاحيان


اما العيب الثاني فهو اللاتجانس: اذ تعاني الطبقةالوسطى من لاتجانس تكوينها وهذا انعكس على غياب الرؤية وتسلط روح الانانية والكسب الفردي على حساب الهدف العام، فضلا عن كونها تتشكل بنيويا من فئات متبايتة في درجة التعليم والثقافة والثروة

كما تحدث الكتاب عن دورالطبقة الوسطى ووظيفتها داخل المجتمعات فذكر ان في تجارب الشعوب الناجحة لعبت الطبقة الوسطى دورا مهما في تحجيم دور الدولة واحجزتها السياسية المركزية لصالح مؤسسات المجتمع المدني المرتبطة مباشرة مع مصالح الشعوب وتطلعاتها ومارست دورا رقابيا فاعلا لاداء الحكومات وهيمنت على مفاصل المجتمعات تحكمها قيم ثابتة ومصالح مشتركة. لذا يقدم هذا الكتاب اقتراحا لحشد وتنظيم جهود هذه الطبقة في العراق وانتشالها من مستنقع الولاءات الفرعية التي تخندقت بها نتيجة اليأس والاحباط وتكرار الفشل وزجها في مشروع يخدم مصالح الطبقة الوسطى وتطلعاتها، وذلك باجراءين يقترحهما الكتاب هما اولا: تاسيس صراع جديد قائم على خندقين  الاول يمثله قوى التخلف (قيم وشخوص ومؤسسات وصفات)، وبين منظومة عصرية جديدة يقودها شباب مؤثر ومتفاعل قادر على انتاج صيغ حياة مقترنة بالمستقبل، ومعادلات قابلة للتطبيق على الارض، بالاستعانة بكفاءات الاطباء والمهندسين والمحامين واساتذة الجامعة والمعلمين والطلبة, كقادة جدد يقودون الحراك ويتفاعلون مع معطيات الاحداث.


ثانيا: تنظيم ادوات هذه الطبقة المتمثلة بالنقابات المهنية، والجامعات في الاختصاصات المختلفة وتفعيل دور الشباب من الصحفيين والاعلامين لخلق وعي جديد وحشد الراي العام وتنويره بمصالح الناس وسبل الحركة الناجحة والواعية، المرتبطة بحاجات الفئات الفقيرة والمهمشة في المجتمع.


ولم يفت الدكتور المعيني ان يقدم دراسة تاريخية لصعود الطبقة الوسطى واسباب انهيارها في العراق، فسمى مراحل تطورها الحراك الصاعد، في عقد الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن العشرين ازدهرت الطبقة الوسطى في العراق واصبحت طبقة منتجة على صعيد الافكار والقيم ومؤثرة في المجتمع العراقي، والسبب يعود الى تبني الدولة  مشروع تنموي شامل ومتكامل يرتبط بمعادلة توزيع  الموارد بصورة عادلة.


اما مراحل انهيارها، الحراك الاجتماعي النازل وهو التدهور الذي اصاب الطبقة الوسطى العراقية في عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين وصولا الى الاحتلال الامريكي 2003 وما تلاها من مرحلة متدهورة، بسبب الكوارث والحروب المتواصلة وظاهرة العسكرة والفساد المالي والاداري الذي ادى الى انحدار طبقات المجتمع الوسطى الى الفقر وصعود طبقات هامشية متملقة للسلطة.

كما ناقش الكتاب العلاقة بين الدين والدولة اذ لا يخفى على احد ان تطور المجتمعات الحديثة جاء نتاج لفصل الاديان عن نظام ادرارة الدولة ومؤسساتها، اي ان مجال دور العبادة ورجال الدين محصور في هذه الدول بالعمل الانساني والدعوي داخل المؤسسات الدينية والانسانية التابعة لها، ولا دخل لها بادارة الدولة وشؤونها مطلقا.وتحدث المعيني عن قضية حساسة ومهمة فقد وضع تساؤلا جوهريا هو((متى يصبح الدين وبالا على الحياة السايسية والاجتماعية؟)) ووضع اجوبة لهذا السؤال هي:


1- حين يقترن بالتطرف والارهاب والتكفير السرقة والرشوة والخداع والغش والغيبة.


2- حين يوهم رجال الدين الناس ويضللوهم فيقرنوا الاخلاق بالدين ويحصروها بالمتدينين, لانها مقدمة خاطئة يترتب عليها وصم غير المتدين بقلة الاخلاق.


3- حين يقف رجال الدين ضد محاولات المفكرين والكتاب تطوير قراءات معاصرة للنصوص الدينية ويتهمونهم بالكفر ويدعون لقتلهم.


4- حين يحول رجال الدين الدين الى وسيلة للهيمنة على مجتمعاتهم عبر التجهيل والسيطرة على المال والسلطة والثروة، وعبر الطمع بالدول الاخرى لان الاسلاميون لايؤمنون بالمواطنة والولاء للوطن بل لمرجعياتهم الدينية بمختلف اشكالها, واستخدام الديمقراطية للوصول الى الحكم

وفي الكتاب تصنيف لانواع من الطبقة الوسطى العراقية افرزتها مراحل التدهور هي الطبقة الوسطى المتدينة  التي نشأت في العراق والدول المباشرة في اواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات وبسبب الحروب واخفاق التجارب القومية واليسارية، منها طبقة من المتعلمين المنضوين تحت مايعرف بالصحوة الاسلامية التي سعت لاسلمة المجتمعات واكتسبت قاعدة جماهيرية كبيرة، بعد الاحتلال تحولت لطبقة حاكمة ومتحكمة بمصير العراق وممسكة بالسلطة والثروة وتنقسم الى 3 اقسام: الاسلام السياسي المتطرف، والاسلام السياسي الانتهازي المنبطح، والاسلام المعتدل والوطني.والحل كما يقترح الكتاب يكمن في كسب النوع الثالث الذي يرفض ممارسات الفساد للاسلام النتهازي التي حطمت الدولة وانشأت طبقة من الفقراء لاحد لها. ويرفض ممارسات الاسلام التكفيري المتطرف.

ولا ينسى الكاتب في اطار معالجته لموضوع الدين والدولة ان يحدد علاقة الدين بادارة الدولة في جملة قضايا:

1- كلنا مؤمنون بالله رغم اختلاف السبل، وكلنا احرار في كيفية سلوك الطريق اليه، وكل مايضعه رجال الدين ويتعارض مع مصلحة المجتمع العامة، ومع مايتفق مع العقل والمنطق والفضيلة، يترك جانبا، او في احسن الاحوال يؤجل او يعلق


2-  حرية العبادة مكفولة للجميع، على ان لاتكون ذريعة لخرق القانون والتجاوز على السلم المجتمعي

3- قانون تحريم وتجريم التميز العنصري والطائفية والترويج لها


4 لابد من تجديد الفكر الاسلامي بما ينسجم مع التجارب المرة التي اساءت اليه


5- تجربة الاسلام السياسي في العراق بعد 2003  تمخضت عن ترد واقتتال ونهب وخراب لثروات البلاد علينا ان نسأل هل هذه التجربة جديرة بالاستمرار ام لا؟


6- اشاعة ثقافة جديدة من خلال المدارس والمساجد قوامها التسامح الديني والاستفادة من تجارب الامم الاخرى.


كما لم يغفل الكاتب الحديث عن اشكالية الدولة والمجتمع المدني فذكر ان المجتمع المدني يعد بمثابة محصلة طويلة لمسار تطور واستقرار وازدهار المجتمعات المتقدمة، وفي سياق ذلك التطور تنتقل تدريجيا عناصر القوة والقدرة من ايدي السلطة والدولة الى داخل مفاصل المجتمع.

اخيرا تحدث عن اهم مشاكل الطبقة الوسطى في العراق وهي الطبقة الوسطى المزيفة، وهي طبقة تحصل على امتيازات من اقترابها وتزلفها للسلطة تمثلها الاف الشهادات المزورة التي دخلت البرلمان ومنظمات المجتمع المدني الوهمية، واثرياء الحرب والحصار الاقتصادي، كما وينطبق هذا الوصف على شرائح الطبقة الوسطى اذا اتسمت بانها تفقد بما فيها من شرائح قدرتها على انتاج قيم المجتمع والدفاع عنها وحراستها، كما تفقد وعيها وتتخلى عن السعي لاكتسابه، وتصبح غائبة عن الوعي، عندما تلتصق بالسلطة او قوى تحالف التخلف وتصبح مجرد تابع لها .

ويرى الكتاب ان الحل الذي ينتشل هذه الطبقة من الواقع المتردي الذي وصلت اليه يكمن في مأسسة صراع منظومة قيم جديدة وهو مايسميه الكاتب ب (الثورة من الوسط وهي ثورة الارادة والمطاولة، بما يتناسب وحجم التلف الحاصل في المجتمع، تبدأ الثورة فكرية من خلال نخب الطبقة الوسطى التي من واجبها، ان تحدد البوصلة وتجيب عن سؤال ماذا نريد وكيف؟


كما يتوجب استعادة الطبقة الوسطى لثقتها بنفسها وقدرتها على الانجاز وصناعة خط شروع جديد يدير الصراع مع القوى التي تتحكم بالمعسكر الذي يدير ويسيطر على مقدرات البلاد الان



الحق ان قراءة هذا الكتاب تفتح مغاليق عقدة الازمة العراقية الانية وتضعنا امام حل لاسبيل لتجنبه فلا مفر من المواجهة لقوى التخلف التي اوصلت العراق لما وصل اليه الان، ويظل الاصلاح والتغير.. طريقا صعبا خاضته الشعوب المتقدمة قبلنا وانتصرت بالصبر والارادة، فليس مستحيل علينا ان نصنع وعيا جديدا ونجمع كلمتنا لاجل مستقبل جديد لاولادنا.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن