كتب : نعيم عبد مهلهل
باريس من المدن التي تحتفي بالجمال على طريقة العري المفضوح ،أي أنها لا تملك شيئاً تخفيه ،ولذلك صارت الحياة فيها أدراكاً لرغبة المنفى ،أي أنها تحاول جاهدة أن تنسي المنفي بلاده من خلال تنوع الاشتغال .
فليلها مقسم بطريقة غريبة .كل خمس دقائق حدث ما .
فمن معرض تشكيلي الى حفل لفيروز الى مشاهدة آخر أفلام رومي شنايدر الى عرض جديد لمسرحية يوجين يونسكو الى افتتاح متحف الأقنعة للأقوام الأفريقية البدائية ،الى أول خيوط الفجر حيث تغلق الحانات أبوابها وتفتح أخرى.
عالم من غرائبية الحدث تهت به شهوراً وكان غياب الوعي بما ملكت من طفولة وصبا قد تملكني .
أما شبابي فهو لم يغادرني لأنه كان ببساطة شباباً للحروب.
وكيف ينسى السومري حروبه وهي التي وصلت به الى كشف كينونة المنفى التي يخشى الوصول أليها حتى فلاسفة الإغريق لهذا فأن الوصول الى تذكر ما كنا عليه في مدينة مثل باريس أمر صعب جداً .
كانت الحياة في مثل هذه المدينة تمثل نمطاً مخيفاً من التكيف مع شيء .
فالثقافات مثل تلك السجادة المطرزة بحكايات الميثولوجيا الطيبة والتي كانت أمك[دغيشة] تفرشها لعجائز المحلة يوم تقيم عزاءاً الى أبي عبد الله الحسين ع وكنت أنت وقتها تغادر رغبتك الليلة بإكمال دراسة مبكرة عن شاعر صعب التناول لكنك منذ أن بدأت تدخل الإعدادية حتى قررت أن تدخل في عالم دهشته: جمالية الصورة عند سان جون بيرس ، وقتها هتف الرجل الذي ترجم بحنو كتابه الجميل رصيف سوق الأزهار :كيف فعلت هذا ؟ أنك تتخطى الوعي بشاعر صعب عشرات الأعوام .
تترك الانشغال ببيرس وتستمع الى بكاء النسوة الذي يتقاطر مثل مطر كمانات تغزل من قماش الدمعة رداءاً لحسين يعاني البرد وحيداً في حومة الميدان .
الآن يقطر الثلج كما قطرات الماء من زير البيت حيث كان ماؤه رقراقاً كدمعة الحبيبة التي علمتها كل ديباجات الوجع الشعري وجعلتها تتمرد حتى على السرير وقت لهاث الحب ثم هربت عنها كما هربت الخوخة من شجرتها عند هبوب عاصفة خريف الحرب فوق جبل تاريار في منطقة قضاء بنجوين عند ذلك الشمال الذي لولا عريكته وخصوبة خيال الثلج فيه لما تحملت أيها السومري باريس لليلة واحدة .
هي الآن وحدها تلوك الندم والحب مع رغيف بطاقة التموين ،ولأنك علمتها مدلولات الهم السومري وقعت على أوراق ، تطور فيها دهشة غيابك المفاجئ وتعلن عن اندثار الحلم في ثلوج الغربة ،ولأنها لم تشاهد ثلجاً على طبيعته راحت تتحدث اليه كمن يتحدث غريب الى غريب .
فيوم اتيت اول مرة الى المهجر ، كنت اتخيل اني سأجد من يقودني الى نزهات مشابهة لتلك التي كنا نعيشها في اماسي المدينة ، وقلت فعلها جدي مرة مع الانكليز ، وستفعلها انثى فرنسية معي ، لكن لا احد يلتفت الي ، وحدي في نزهة قدمي ونصيحة لصديق هاجر قبلي ، أن اردت ان تتخلص من الهومسك الذي يأتيك لأنك تفقد جنوبك ودمى طفولتك أن كانت لديك دمى عليك ان تذهب الى اللوفر وتقف امام آثار بلدك ومنها آثار مدينتك ، ستعيش نشوة انك ستعود اليها وستجد جدك مرسوما على كل منحوتة اخرجوها من اور وقتها ستعيد سرد حكاية نزهة جدك مع كاثرين زوجة مكتشف مقبرة أور الملكية السير ليوناردو وولي واجاثا كريستي وزوجها ماكس مالوان .
بين باريس والناصرية فصل من بلاد بقيت عصية على بساطيل الغزاة وزنازين الطغاة . تحلم لتعيش وتعيش لتحلم ، وما تدونه ارهاصات ذاكرتي هي انما هو تدوين لغربة الدمعة وحقيبة السفر.