أ.د. نزار الربيعي
لعل القضية المحورية للممارسات الحرة للدين في مجتمع تعددي كالولايات المتحدة تتمثل فيما إذا كان الحياد الحكومي تجاه الدين معادياً في جوهره للدين برمته من خلال محاولة استبعاد اقصى ما يمكن فيه من الحياة العامة أو هل سيتخذ هذا الحياة شكل تعددية دينية مشجعة حقا عندما يكون منسجماً مع العدالة، هذه احدى القضايا القديمة في الحياة الامريكية لكن بعض الادوار قد انعكس مسارها في القرن العشرين، وفي بدايات التاريخ الامريكي جرت العادة على ان الجماعات الدينية هي التي رغبت في فرض وجهات نظرها على المجتمع باسره، أملة ان تستوعب كل انسان في بوتقة الصهر البروتستانتية أو شبه بروتستانتية.
بيد ان القرن العشرين ومع ما يحدث من توسعات تكنولوجية وحكومية ضخمة لنطاق العلمانية، فان العلمانية أو إنكار وجود الإله هي وجهة النظر الوحيدة التي تواجه أي إحتمال بأن تصبح الفلسفة شبه الرسمية للأمة الامريكية بأسرها، وخلال العقود الوسطي من القرن العشرين، اكتسبت هذه الاتجاهات وضعاً يكاد يكون مؤسسياً، غير ان الجماعات الدينية المحافظة احرزت بعض النجاح منذ عقد السبعينيات في ايضاح ان هذا النصر للادينية سيكون مدمراً للتعددية.
والذي تحتاجه امريكا اليوم هو اعتراف المتدينين وغير المتدينين على حد سواء بانقضاء الايام التي كان باستطاعة اية جماعة بمفردها دينية أو لا دينية املاء فلسفة شاملة مسيطرة على الشعب برمته، لأن الانقسام الاخلاقي داخل المجتمع الامريكي اعمق من ان يسمح بذلك، وينطبق القول ذاته على بعض الخلافات الدينية والعرقية والسياسية التقليدية، بيد انه قد يوحد في أي سياق تعددي ما يكفي من التجربة المشتركة، للتسامح وانعدام التسامح بحيث يوجد امل للقبول على نطاق واسع بفلسفة عامة اكثر محدودية تنطوي على رضى مشترك متبادل بقواعد تعامل مع الآخر تماثل القواعد التي يرغب المرء في ان يتعامل الاخرون معه بموجبها.
اما فيما يتصل الامر بالدين فان الصيغة أو المعادلة الاوفر خطاً في القلوب لها على نطاق واسع قد تكون على الارجح الصبغة الواردة في التعديل الأول للدستور التي تضمن ممارسة الدين بحرية كما تضمن ان لا يكون مؤسسة رسمية، وعلى كل جماعة دينية كانت أو علمانية الاعتراف بأن هذه قاعدة ذات اتجاهين، فإذا ارادت الجماعات ضمان التمتع بالحرية في ممارسة وجهات نظرها الخاصة، فانه يترتب عليها ان لا تطالب باحتكار الرأي العام بل بالعمل على حماية الممارسة الحرة لجميع وجهات النظر الدينية الأخرى.
وفي الوقت ذاته عليها ان تدرك ان الدين كان دائماً احد مصادر الصراع البشري، ومن ثم فان من الملائم كما جرت العادة منذ أمد طويل في امريكا، النأي بالمواقف الدينية الواضحة عن العديد من الفعاليات العامة والحكومية، وليس من المناسب اجراء المناقشات اللاهوتية في قاعات المحاكم أو ردهات المجالس التشريعية، كما يجب ان لا يدعي المسؤولون الرسميون وجود تفويض ديني أو رباني لسياساتهم، غير ان هذه القيود المرغوب فيها على الدين في الحياة العامة يجب ان لا تؤدي إلى كبت التعبير باشكال مشروعة في المجالين العام والخاص، ومع ان قاعدة ثنائية الاتجاهات كهذه لا تحل جميع المشكلات، الا انها قد توفرت بعض الخطوط الهادية التي ستساعد في ضمان ازدهار الاتجاهين الديني وغير الديني، ومن المظاهر اللافتة للنظر في تاريخ الدين والثقافة الامريكية ان العديد من الافكار والرؤى الدينية التي يجري التمسك بها بقوة، استطاعت على العموم ان تتعايش معا بصورة سلمية، ورغم ان المبدأ الدستوري المزدوج لم يطبق دائما بصورة مطردة، الا انه كان عاملا هاماً في الاسهام بهذا الاتجاه المرموق.
نعم سيظل الدين احدى القوى الرئيسية في الحياة الامريكية ورغم انه لم يعد بالامكان اجراء محاورات وجدال عام في مجتمع تعددي ولك فيما يتعلق بما يفترض انه تراث ديني، فان تعاليم العديد من الموروثات لا بد وان تتسرب الى جميع ابعاد الحياة الوطنية.