جعفر الحسيني
كان عبد الله احمد باشا الصائغ ، من الشخصيات الادارية المرموقة في عهد الملك فيصل الاول ، ويتمتع برعاية الملك نفسه ٠ فقد عمل متصرفا ( محافظا ) في عدة ألوية ( محافظات) عراقية منها لواء الديوانية ولواء الكوت ولواء العمارة ولواء الموصل ولواء بغداد ثم عين مديرا عاما في وزارة الداخلية ٠
وكان جده من اكبر تجار البصرة ورئيسا لبلديتها (توفي عام١٨٩٧ ) ٠
اما والده فهو احمد باشا الصانع ، والذي درس الحقوق باسطنبول ، واصبح بعدها عضوا في مجلس ولاية البصرة في العهد العثماني ، ثم وزيرا بلا وزارة في اول حكومة عراقية ، فمتصرف البصرة لست سنوات ، فعضو مجلس الاعيان العراقي ٠ ثم استقال - عام ١٩٢٨ - بسبب مرضه ، وتوفي عام ١٩٣٠ ٠ وكان الملك فيصل الاول قد نزل بداره - عند مروره بالبصره - متوجها الى بغداد لتسنم عرش العراق ٠
اراد عبد الله الصانع - عام ١٩٣١ - ان يتزوج ابنة عبد المحسن السعدون - رئيس وزراء العراق - المقيمة مع امها التركية في دمشق بسوريا بعد انتحار والدها عام ١٩٢٩ ٠ او ان الزواج كان قد تم فعلا ٠
لكن الشيخ عبد الله الفالح السعدون نهاه عن الزواج ، بحجة عدم التكافؤ بين الاسرتين ، فتجاهل عبد الله الصانع ذلك ٠
جاء السعدون الى وزارة الداخلية ببغداد ، ودخل الى مكتب الصانع ، والذي رحب به واجلسه وطلب له القهوة ، ثم سأله اذا كان لديه امرا ليقضيه ٠ وفي رواية اخرى ان الصانع تصور انه جاء ليهنئه بالزواج - اذا كان الزواج قد تم فعلا ٠ فما كان من السعدون الا واخرج مسدسه وعاجله بعدة اطلاقات قاتلة ، وظل جالسا بمكانه ، ثم سحب سيجارته ودخنها منتشيا بجريمته ٠ اما الشرطة ( حرس وزارة الداخلية ) فترددوا في اعتقاله في البداية ٠
حكمت محكمة عراقية كان يرأسها قاض انجليزي على المتهم بالاعدام ٠ لكن الملك فيصل الاول عفا عنه واطلق سراحه ، حيث جرت له في البصرة - محل سكناه - الاحتفالات والولائم والقيت الكلمات والقصائد ٠ وقيل ان العفو جاء بتوسط الملك عبد العزيز بن سعود ( المرفقة رسالته بالمقال ) ٠
الغريب ان احدا لم يقدم استقالته او يحتج على اطلاق سراح القاتل ، لا رئيس الوزراء ولا وزير الداخلية ولا من رجال السياسة او الاعلام ، ولم تُكتب حولها مقالة او قصيدة في العراق تستنكرها وترثي حال المرأة العراقية ومصائب التقاليد وجور العشيرة ، بل كانت هذه الحادثة موضع تفاخر واعتزاز ٠ واتذكر انني سمعتها لاول مرة من جدي - وهو من صغار الملاكين وقد صادر الاصلاح الزراعي ارضه - والذي حدثنا عنها ونحن صغار متغنيا بها وعينه تشع بالزهو والفخر ، رغم ان لاعلاقة تربطه بالقاتل لا من قريب ولا من بعيد ، انما قضية النسب والحسب هي اساس الحياة لديه وتتقدم على الدين والاخلاق والعلم ٠ بل حتى هذه اللحظة هناك مَن يفتخر بها ٠ والمثير للسخرية ان كاتبا معاصرا حاول ان يعطى الجريمة بعدا وطنيا ، وربطها بكون الضحية كان يعمل مع حكومة اقامها الاحتلال البريطاني !!!!
وقد جاء النقد والاستنكار وقتها ، من الكاتبة العربية المشهورة مي زيادة ، والتي كتبت مقالة عن الحادث رثت فيها اوضاع المرأة العربية وظلم التقاليد ٠
وكملاحظة فرعية ، ان سجل ادباء العراق في الدفاع عن حقوق الانسان وتطبيق القانون وبناء الدولة - في العهدين الملكي والجمهوري - لم يكن ناصعا ٠ بل ان بعض كبار الادباء كانوا من المحرضين على القتل والسحل ٠ بينما لم اجد نصا لاديب مصري ولا حتى لصحفي يحرض عبد الناصر - في اوج تصاعد النزعات الثورية - ليجعل من جماجم الاقطاعيين او الاخوان المسلمين منافض للسجائر ( البياتي ) ، فضلا عن قصائد الجواهري في هذا الشأن ، والتي دعا فيها حكمت سليمان ثم نوري السعيد ثم المهداوي لاعدام المعارضين !!!
بلاشك ان العفو هنا كان من خطايا الملك فيصل الاول الكبيرة ، والذي يبدو ان خلفيته القبلية تتقدم عنده على مشروع بناء الدولة ( راجع وجوه عراقية عبر التاريخ لتوفيق السويدي ) ٠ مع ان لهذه الجريمة خصوصيتها ، فهي :
اولا : جرت تحت علم الدولة ، واثناء الدوام الرسمي ، وفي الوزارة المسؤولة عن امن البلد الداخلي ، وكان ضحيتها مسؤولا بهذه الاهمية ٠
ثانيا : ان الجريمة جرت عن سابق اصرار وترصد ٠
ثالثا : ان الجريمة تنم عن استهتار بالدولة وتحدي لها - فهو لم يرتكبها في بيت المغدور مثلا - فضلا عن دافع الجريمة المتخلف والسخيف ، وسلوك الجاني المتشفي - بعد جريمته -والذي ينم عن تباهٍ وزهو ٠