مهند الساعدي
كثيرون جداً، وفائضون عن حاجة السياسة والحكم والادارة.
وهذه الدولة لا تحتاجنا كلنا في الحكم.
نحن نخنق وطننا بهذا الازدحام. نحن نزدحم على ادارته حد الخراب والموت. كثيرون نحن، بطوائفنا السياسية، واعراقنا، واحزابنا، ومنظماتنا، وتياراتنا ، وفلسفاتنا ، وايديلوجياتنا، وعشائرنا، وشيوخنا، ومنابرنا، ومليشياتنا، وراياتنا، واعلامنا، واهوائنا، ورؤوسنا الكثيرة، التي ينطح بعضها البعض الاخر .
نحن شعب قديم ومعقد ومتعب؛ يحتاج الى مشروع بسيط، يجعلنا مثل خلق الله ودوله .
حين تلاحظ حكاماً وامراء عرب وعالميين يحكمون دولهم بالبسيط والسهل الممتنع تدرك ان اهل العراق تشددوا فشدد الله عليهم .
لماذا كان (صدام )يستغرب ان يقود العراق رجل بسيط وضعيف مثل (عبد الرحمن عارف)وهو في الحقيقة يشبه نصف حكام الارض !
ويستغرب ويلوم شيوعيون مغمّسون بالعنف الثوري "زعيمهم" عبد الكريم قاسم انه كان مسالماً اكثر مما يستحق العراق!
ولماذا كان يقول لاخيه ان العراق لو حكمه ابن خالي وزير الدفاع لاخذها العراقيون منه في ثلاثة اشهر ! لانه متسامح !
ولماذا ذهب فيصل الثاني ضحية سهلة ولَم يحتط لنفسه كما احتاط الحسن الثاني الرهيب او الداهية البدوي عبدالله !
ولماذا حين تتجول ساعة واحدة في ساحة التحرير تسمع من العراقيين نظريات حكم بعدد من تلتقي به!
واحد يدعو للجمهورية، واخر للملكية، واخر للبرلمانية، واخر للدكتاتورية، واخر يقول كل ذلك لا ينفع معنا !
شعب تعطلت معه جميع نظريات الحكم عن العمل نحنُ ؟
مدن إيكواريوم، وفورمولا ون ،وخزائن الدراهم والريالات، ومدن الابراج، بناها حكام وامراء يلفظون الغين قاف، ويلوكون الفصحى، ويعانون من قواعدها كما تعاني المرأة عند الطلق! يتأتؤن ، ويتمتون، ويرطنون، ويفأفؤن ، ومنهم من لا يكاد يبين!
ومنهم من حكم شعبه بترجمان، ومنهم من حكمه بالدشداشه، ومنهم من حكمه بشرطة من الهند .
لكنها دول تعايشت مع اعقد المعادلات السياسية والامنية التي تحيط بها، وتعاملت بالسهل الممتنع والواقعي البسيط، والحاكم الذي يتهجى اللغة لكنه يجيد قراءة لغة المصالح.
موهبة في الحكم؛ تفتقر لها الشعوب القديمة المعقدة المتعبة.
كذلك دول عالمية كبرى، حكمها حكام متشنجون مثل هتلر، او مشاغبون مثل برلسكوني، او ثرثارون يتكلمون كثيراً مثل فيدل كاسترو، ورعنان مثل دونالد ترامب. لكنها بقيت دولا كبيرة يقودها هولاء او تقودهم هي بانظمتها وقوانينها وتقاليدها وانتاجها وراسمالها .
حكام على البساطة..
ملكيون يتهجون الدستور الملكي! ليبراليون لا يعرفون اسم جون لوك!
ومدنيون لم يقرأوا حرفاً واحدا لغرامشي !
واسلاميون يصومون ويصلون بلا جماعة ولا حزب !
لكن دولهم ظلت على بساطتها وبساطتهم : امنة، ثرية، متعايشة تنجو كل مرة من الحرائق القريبة منها وتخرج سالمة، بينما يحترق بها، شعب الخطباء الفصحاء الذين حفظوا كتب الفلسفة وقوانين الحكم !
الحكم مهارة خاصة، وموهبة يتحلى بها الحاكم والمحكومون، فيه من العلم النظري الكثير ، لكن فيه من الذوق والايجابية والثقة والبساطة والسهولة واليسر الكثير ايضاً .
اما الشعوب والمجتمعات المعقدة والشديدة المراس والجدلية والحادة المزاج فسوف تذهب الى ما اختارت:
من نظرية الى نظرية ، ومن حرب الى حرب ،ومن حريق الى حريق، ومن فتنة الى فتنة.
دول وشعوب القلة، افضل من دولة وشعوب الكثرة: كثرة الاراء والافكار والاحزاب والجماعات والثقافات .
واذا ما ابتلت بذلك دولة من الدول، وادارته ادارة سهلة ،وبسيطة، وغير معقدة فهي الى خير ان شاء الله .
اما نحن، في بلاد السواد، وداخل اسوار بغداد، فلم نعد كما وصفنا الجاحظ، او الصاحب ابن عبّاد، او ياقوت الحموي. وقد اتعبتنا القرون الخوالي، وصرنا مجتمعاً معقداً، ابعد ما يكون عّن البساطة، والتبسط ، والسهل الممتنع في القيادة .
نحن كثيرون جداً على دولتنا
كثيرون جدا على العراق
الذي اختنق بنا