14 Nov
14Nov


بقلم : د. رعد هادي جبارة /  باحث ودبلوماسي سابق
لاشك بأن خطاب السيد حسن نصرالله الاخير يتمتع بالإهمية والرصانة و الواقعية والاتزان و اجتناب الانسياق و الانزلاق مع الحماسة و المشاعر العاطفية والفورة الآنية للجمهور. 

وكما كان توقعي(وكنت ملوماً عليه عند البعض ) ظهر السيد حسن في 90%من الخطاب هادئاً محافظاً على نبرة كلامه،غير متوتر،حذرا في تعابيره، متزناً في لغةالجسد، بحيث اختار وكتب مسبقاً مايريد قوله بإتقان،لئلا يقع في الاعتباطية والارتجال، ولهذاجاء خطابه أقل شدةً وأخف حدةً مما كان يسوّق له المنبهرون، و يزعمه المحلّقون و المتعجّلون والمصفقون. 

كان البعض يريدونه أن يخطب فيُزبد ويُرعد ويوعد ويهدّد وينذر ويحذّر ويقرّر أن يدمر ويشمّر عن ساعد خوض الوغى،دون أيّ تروٍّ و تمحيص. 

وكتب البعض(قبل الخطاب) كثيراً من التهويلات والمبالغات و وعد قرّاءه بالمفاجآت و زعم أنه ستقوم القيامة و أن القارات السبع تقف على رجل ونصف(أو "إِجِر ونص"!!!!) واستشهدوا بكل آية وردت فيها كلمتا نصرالله،في إيحاء غير مباشر للقارئ بأنها تنطبق على الرجل،وبلغت تكهناتهم ومبالغاتهم أفق السماء في ارتفاعها،وكأنه سيحل اليوم الموعود في لحظة خطاب السيد ،أو ربما تنبطق السماء على الارض!!!! وباعتقادي أن هذه ظاهرة غير صحية لعلنا نوفق لاحقاً لدراستها،لكن بالعودة إلى الخطاب فإن السيد أعقل وأعمق مما قاله المحبون المنبهرون المبالغون،وأكثر حنكة و درايةبالظرف الذي يمر به حزبه ولبنان،ومن خلفه ايران، اقتصادياً وداخلياً و إقليمياً، وعلى صعيد نسيج اللُّحمة الداخلية و جماهير الشعب،ولا يمكن أن ينزلق سماحته في مهاوي المغامرات، و يعرّض الحرث والنسل للهلاك والدمار،دون دراسة للمعطيات القائمة، و يعلن قرار دخول المواجهة بطريقة غير مدروسة ملياً وبأسلوب غير محسوب النتائج، و لذلك يعتقد البعض أن زيارة اللواء قااني و الموفد القطري لبيروت أدت إلى تعديل الخطاب و تهدئة الأسلوب و تقليل "ديسبل" الصوت وتعديل النبرة وتغيير الوعيد و إبقاء الباب مواربا امام خيارات مفتوحة و التلويح بأننا لن نبدأ في الحرب بل سندافع لو هوجم لبنان،مثلما قيل في طهران بأنهم سيدافعون عن بلدهم لو هوجمت ايران،وحسب.هل يعني هذا التخلي عن غزة؟ 

هل يصدق ادعاء من قالوا(ورطوهم و تركوهم)؟هل يعد تراجعا عن التصريح السابق بأنه لو شنت اسرائيل الهجوم البري على غزة فسنقوم باكتساح الجليل؟أكيد (لا).من ناحية أخرى،وكما نعرف فإن الحرب خدعة و ربما أراد السيد حسن أن يوهم العدو بأنه لن يكون طرفا أساسياً في الحرب بين إسرائيل وغزة لو لم يحدث اعتداء على لبنان،ولن يفتح الحزب الجبهة اللبنانية لو لم تتصرف إسرائيل بتهور ضد شعبه وتضرب المناطق اللبنانية المحاذية لشمال فلسطین المحتلة. أي أراد السيد طمأنة الداخل اللبناني و ضبط النفس وإعادةالامن إلى النفوس القلقة من احتمال أن تلقى بيروت ما لقيته غزة من صنوف الدمار والإبادة الجماعية و الضحايا،بل شاء السيد أن ينضّج الرأي العام لدى شعبه بأنه ومقاتلي الحزب مستعدون ل(الدفاع) لو أعتدي على لبنان،فحسب. 

البعض يشير إلى [ما وصف به المدعو أيدي كوهين خطاب السيد بأنه عقلاني وأنه سحب كلامه من أنه سيتدخل مباشرة لو بدأت إسرائيل هجومها البري على غزة،وهاهي قد بدأته منذ أسبوع]بأنه كلام في غير محله،وهكذا زعم بالقول:[نتفهم حاجتكم لبعض عبارات الحماسة و التهديد والوعيد ،ودمت ذخراً لدعم صمود دولتنا]!! وهو كلام فارغ.


بينما المحلّل الإسرائيلي (نيتسان سادان) قال:[كان بإمكان نصرالله بالأمس أن يكسب شعبية مئات ملايين العرب ، لكنه لم يفعل.. بالأمس تيقنت أنه لا يمكن مقارنة عبد الناصر بزعيم حزب اللهفجمال عبد النّاصر رغم ذكائه، رضخ للحماسة و الشّعبويّة فتهوّر وخسر الحرب معنا،أما نصر الله الذي كان بإمكانه بالأمس أن يكسب شعبية مئات الملايين بكلمة واحدة ، فضَّلَ أن يخسر شعبيته كي يحقّقَ نصراً ساحقاً في المستقبل،هذا الرّجل إستثنائيّ، إنّه مُخيف]. أما الفلسطينيون فهم يتفهمون الظرف و يدركون سداد الرأي و صوابية النهج الذي تضمنه خطاب السيد، و لهذا صرح داود شهاب مدير المكتب الاعلامي في حركةالجهاد الإسلامي قائلا: أحيي السيد حسن نصرالله و أرى أن خطابه شكّل إسناداً معنوياً و سياسياً و ميدانياً واسعاً للشعب الفلسطيني ، و فتح الخيارات على مصراعيها أمام الفصائل الفلسطينية، و أن الشعب الفلسطيني ليس وحيداً،وليس مسموحاً لإسرائيل الاستفراد به،وإن السيد نصر الله يدرك ماذا يعني أن تنكسر غزة،وهي لن تنكسر،وكلام السيد نصرالله كان صادقاً و أميناً.وعندما تنقل قناة (روسيا اليوم) ‏عن وزير إسرائيلي بأنه (لا يستبعد استخدام القنبلة النووية في غزة) ندرك مصداقية ما قالته مصادر عديدة من أن مرفأ بيروت قد تعرض لقنبلة نووية اسرائيلية صغيرة قبل بضع سنوات.


  صحيح أن السيد كشف عن رسائل تهديد امريكية شديدة اللهجة باستهداف ايران نفسها في حال استمرار هجمات حزب الله على الحدود مع الكيان الصهيوني، وقال : “اميركا بعثت لنا رسالة بأن جنوب لبنان اذا دخل الحرب فاننا قد نقصف ايران وليس لبنان فحسب”. 

إلا أنه خاطب الأميركيين، “أساطيلكم لا تخيفنا ولم تخفنا في يوم من الأيام وأساطيلكم التي تهددون بها أعددنا لها العدة أيضاً”. 

معتبراً:إن التصعيد في الجبهة اللبنانية مرهون بأمرين:الاول مسار التطور في غزة.. والثاني هو سلوك العدو الصهيوني تجاه لبنان، موضحاً ان “كل الاحتمالات في جبهتنا اللبنانية مفتوحة وكل الخيارات مطروحة”. 

و اضاف مخاطباً الأميركيين، إن “التهديد و التهويل علينا وعلى المقاومين في منطقتنا لا يجدي نفعاً”. 

  إذن،يمكننا هنا أن ندرك طبيعةالتعديل الذي حصل في الموقف ولغة الخطاب بحيث كان متوقعاً -قبل التعديل- ان يحدد السيد مهلة أو تاريخا محددا لوقف المجازر في غزة وفك الحصار عنها وفتح معبر رفح لدخول المساعدات ، و إلا فإن حزب الله سيدخل المعركة،إلا أن موفدي طهران والدوحة نصحاه بالتريث في ذلك و اجتناب التصعيد و الوعيد الشديد كي لايقع ما ليس في الحسبان.

   ختاما نقول إن السيد قد أحسن تقديرالموقف لأنه يدرك طبيعةالوضع في لبنان  وحتى في سوريا وايران،وأي قائد محنك وفذّ يسأل نفسه قبل إطلاق الصاروخ الاول(ماذا في اليوم التالي؟ومن سيقف معي و من سيغضّ النظر في ساعةالعسرة ويتحاشى الانزلاق معي ويعتذر بظروفه؟وما هي الكلفة المتوقعة؟وهل شعبي قادر عليها؟وما هي مكاسب المعركة؟وكيف سأبرّر للعالم نقضي للقرار 1701الصادر عن مجلس الأمن الدولي؟).  

وبالتأكيد فإن السيد نصر الله  أدرى بوضعه،و لديه الحكمة وفصل الخطاب. وقد ورد في حديث رواه عمر بن علي بن أبي طالب عن أبيه ع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (الشاهد يرى مالا يرى الغائب) [أنظر:علل الدارقطني ج 4 ص 58].[وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ](فاطر/14)

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن