د. محمد القريشي
اصدر إيمانويل تود، مؤرخ وعالم انثروبولوجيا فرنسي ، كتابا مثيرا في بداية العام الحالي تحت إسم ( سقوط الغرب)،لاقح فيه بين الرياضيات والملاحظات الاجتماعية وناقش قضايا اجتماعية وسياسية من زوايا الدين والتاريخ.
اشار تود في كتابه الى الدور المركزي الذي لعبته البروتستانتية في تشكيل الثقافة الغربية، وخاصة في أوروبا الشمالية والولايات المتحدة، البروتستانتية، حين قدمت إطارًا أخلاقيًا وقيميًا ساهم في تطور الحالة الفردية، والمسؤولية الشخصية، والانضباط الذاتي، وهي خصائص كانت مرتبطة بالنموذج الرأسمالي الغربي.
ويري تود بان البروتستانتية انتجت مستوىً تعليميا عاليا، ومحوا للأمية شاملا، لأنها تطلبت أن يكون كل مؤمن قادرا على قراءة الكتاب المقدس بنفسه ( شجعت على الانسلاخ من الابوية الدينية والانخراط في فردية وجماعية مستقلة) ، فساهمت في إطلاق عجلة التقدم التعليمي وأخلاقيات العمل وسهلت ولادة المنجزات الصناعية والاقتصادية الكبيرة ولكنها انتكست بانتاج أقسى أشكال العنصرية في الولايات المتحدة والنازية في ألمانيا.
وقد مثل ذلك، بداية الانحدار الفكري، واختفاء أخلاقيات العمل والجشع الجماعي المسمى الليبرالية الجديدة، واشر على سقوط الغرب!
ويستخدم تود صورة (دينية) حركية قيمية موازية او مفسرة لتراجع الغرب من خلال تحديد "منطقة زمنية" لانتقال الدين من حالة الزومبي ( حسب تعبيره) إلى حالة الصفر.ولكن ماهي الزومبية وما هي الصفرية كما فسرهما تود ؟
حالة الدين الزومبي هو اختفاء الإيمان مع بقاء الأخلاق والقيم وقدرات العمل الجماعي الموروثة من الدين، وغالبا ما يترجم ذلك إلى لغة أيديولوجية، وطنية أو اشتراكية أو شيوعية.
وقد استمرّت هذه الحالة إلى بداية الألفية الثالثة، التي انتقلت خلالها مجتمعات الغرب من الزومبية إلى حالة الصفر.وهناك ٣ مؤشرات لهذا الانتقال، أولها "اختفاء المعمودية" ، بعد ان كان الناس لا يذهبون إلى القداس ولكنهم يعمدون أطفالهم خلال الفترة الزومبية، ويعد هذا الاختفاء وصولا إلى مرحلة الصفر من الناحية الدينية. وثانيهما التحول من "دفن الموتى" والاستماع إلى راي الكنيسة الرافض لحرق الجثث ( المرحلة الزومبية) إلى حرق الجثث بشكل مألوف " المرحلة الصفرية".
وفي المؤشر الثالث، يتناول تود الزواج المدني خلال (فترة الزومبي) الذي كان يكتسب جميع خصائص الزواج الديني القديم، رجل وامرأة وأطفال يستحقون العيش والتعليم، والانتقال إلى زواج المثليين، الذي ليس له وجود ديني على الإطلاق. ويعتبر تود المؤشر الأخير نقطة مفصلية في تاريخ التحول نحو الصفرية الدينية!
ويرى تود بان الغرب قد استهلك خلال فترات الثورة الصناعية والحداثة رأسماله القيمي الذي ورثه من المرحلة الدينية دون ان يضيف او يجدد كثيرا في هذا "الرأسمال", لدرجة صار الفرد فيه وحيدا امام توحش الحداثة، وتراجع زخم التعليم فيه إجمالا وضعفت فيه الطبقة الوسطى( تراجع البروتستانتينية المحفزة)..
ويعتبر تود من جهة اخرى بان الدول القومية "المثقلة" بديون لدول اخرى، قد فقدت صفتها كدول قومية بسيادة كاملة، ويناقش خصوصية روسيا في المجتمع الدولي (صلابة الموقف الداخلي الروسي) ومشاكلها ونقاط قوتها ، من نواحي انخفاض معدلات الجريمة واستهلاك الكحول والمخدرات وانخفاض الوفيات ومشكلة انخفاض معدل الولادات (التي انعكست على العقيدة العسكرية الروسية حسب راي إيمانويل كاف ، من خلال الاعتماد على المدفعية والصواريخ كبديل عن الاندفاع البري بالمشاة) واجهت نظرية تود انتقادات متعددة تتعلق بالنهج العلمي المتبع والإسقاطات الايديولوجية المسبقة ويبقى رصده للعلاقة ( صعودا وهبوطا) بين البروتستانتية والتنمية في العالم الغربي مثيرا للانتباه والجدل!