07 Apr
07Apr
  • لم تشهد دولة كل هذا الكم والنوع من الأزمات والكوارث كما شهدتها الدولة العراقية الحديثة، فالإنقلابات والدكتاتوريات والحروب، وأزمات الهوية والانتماء والولاء، ومعضلات التعايش والتنمية والتطوّر، إضافة إلى التدّويل والاستلاب وارتهان المصير..الخ، كلها تشير إلى أزمة وجودية تتصل برؤية التأسيس للدولة وبمناهج الإدارة للحكم. 


  • لم يمثل تاريخ التاسع من نيسان 2003م في التاريخ العراقي الحديث إسقاطاً لنظام سياسي ليُستبدل بنظام سياسي آخر وتنتهي القصة، بل هو تاريخ كاشف لأزمة عميقة وحقيقية ومتجذّرة في الدولة العراقية، أزمة تتصل بالتأسيس لطبيعة هوية وبنى الدولة، وتتصل بطبيعة مناهج وسياسات الحكم التي تعاقبت على الدولة.


  • زلزال 2003م كان لحظة حقيقة كاشفة لإنهدام شامل للدولة العراقية بسبب سوء أنظمتها وفشل مناهجها وتخلف سياساتها وانقسام أمّتها، وبسبب عدم تموضعها الصحيح في معادلات المنطقة والعالم،.. فأتت لحظة 2003م لتكشف عمق الإنهدام على مستوى التأسيس للدولة والإدارة للحكم وفي أدوار وسياسات الدولة


  • الأطوار التاريخية للدولة العراقية (وبالذات خلال عقود حكم البعث الذي أنهى الدولة بمثلث أضلاعه الإستبداد المطلق والأمن المتوحش والحروب المستدامة) كانت أطوار حكم سلطوي استبدادي متلبس بالدولة، فالدولة العراقية منذ تأسيسها الحديث لم تستند -في العمق- الى فكرة دولة المواطنة الحديثة ووظائفها، ولم تنتج جوهرها الوطني المدني المؤسسي القائم على وفق مسطرة الحكم الرشيد وإرادة الأمّة، ولم تنجز شروط تكاملها الوحدوي والتنموي والسيادي على وفق المصلحة والخصوصية العراقية، بل كانت دولة سلطة مستبدة ومنحازة ومغامرة غالباً ما أدّت الأدوار نيابة عن الآخرين. لذا يمكن القول أنَّ للدولة العراقية أزماناً وليس تأريخاً، أزمنة مستنسخة من تجارب حكم استبدادي مغامر وليس تأريخ دولة متراكم من تجارب حكم وطني عادل ورشيد وعقلاني.


  • عدم إنجاز الدولة على وفق شروطها الطبيعية واشتراطاتها البنيوية أدى الى تحوّلها إلى مشروع سلطة مجردة متمردة ومحتالة على بنى ووظائف الدولة، وأدى إلى انتاج دولة اللا أمّة، وأمّة اللا دولة،.. أمّة ودولة العصبيات والعصبويات والعصابات المدمرة للمجتمع والمدنسة للدولة والخاطفة للوطن.


  • بغض النظر عن النتائج التي ترتبت على طريقة إسقاط نظام البعث في 2003م على يد الفاعل الأميركي، وبغض النظر عن التركة الهائلة للإستبداد والدمار الي أنتجه النظام البعثي، وبغض النظر عن طبيعة الممانعات والتحديات الداخلية والإقليمية والدولية الهائلة المتأتية من الدول المتضررة من التغيير والتي نقلت معاركها للداخل العراقي، وبغض النظر عما أفرزته طريقة الإدارة لملفات الإنهيار من إرهاب وجريمة وفوضى ألقت بظلالها على البديل المراد انتاجه.. إلاّ أنّ ما تم إنتاجه بعد تغيير النظام البعثي يمكن إيجازه بالعبارة التالية: نجاح في تأسيس الدولة وفشل في إدارة الحكم. 


  • تتحمّل قوى العملية السياسية مسوؤلية الفشل في إدارة الحكم، والفشل بإقامة نظام سياسي على ضوء أسس التأسيس الذي قال به دستور 2005م، عندما اعتمدت القوى السياسية معادلات وأعراف عمل سياسي جاء أغلبه خارج مقومات التأسيس الدستوري والقانوني الملتزم والمنضبط والمراعي للتحوّلات البنوية الكبرى في مسيرة الدولة. (وكمثال على ذلك، قال الدستور بالأغلبية البرلمانية في إنتاج الحكم، بينما اعتمدت القوى السياسية التوافق المكوّناتي الحزبي في تأسيس وإدارة الحكومات).


  • التأسيس المقبول للدولة والقابل للتطوّر التدريجي وفق تطوّر البنية المجتمعية والسياسية والتنموية للدولة، صاحبه فشل واضح في الرؤية والإدارة للحكم الذي تبنته العملية السياسية والذي قام على أساس من معادلة: المكوّن+سلطة المكوّن+المحاصصة الحزبية=النظام التوافقي المكوّناتي للدولة.


  • نظام التوافق المكوّناتي القائم على الهويات الفرعية والحزب الممثل للهويات والمصالح الإثنية الطائفية، والذي جاء مخالفاً للدستور، يعتبر حجر الأساس في فشل إدارة الحكم. فقد أدى إلى تضخم الهويات الفرعية ومنحها بعداً سيادياً، وقاد إلى تشظي السلطات على عدد المكوّنات وإلى توازن سلبي في السلطة، وأنتج ابتلاع حزبي للدولة (باعتبار الحزب هو الممثل عن المكوّن وسلطة المكوّن في الدولة) فنتج لدينا دولة أحزاب تحاصصت الدولة، وأفقد الدولة النّواة الصلبة للحكم فنتجت الفوضى وترهّلت السيادة. إنَّ أغلب مظاهر الفوضى والتشظي والفساد والاستلاب إنما هي نتاج النواة الرخوة والمنقسمة للحكم. 


  • لا يمكن عزل الفشل بإدارة الحكم عن الفعل النوعي المضاد (والذي غالباً ما كان دموياً وإرهابياً وسلبياً) للقوى المتضررة من إسقاط البعث –داخلياً وخارجياً- والذي صعّب عمليات التحوّل في بنية الدولة ومناهج الحكم، ولا يمكن عزل الفشل عن الواقع التاريخي للدولة وعن مديات الصراع الجيوسياسي الذي أسقط العراق في منخفض صراع مصالح الدول والأمم،.. هذا صحيح، لكن يبقى السبب الأساس في الفشل بإدارة الحكم يعود إلى المناهج والسياسات التي أُعتمدتها القوى السياسية لإدارة الحكم والذي لخّصته معادلة المكوّنات وجسّده نظام المحاصصة، ويعود كذلك إلى البدائية وافتقاد الطهورية بممارسة المسؤوليات، الأمر الذي أخلَّ بالحكم كرافعة للدولة، وبالنتيجة أخلَّ بالدولة كبنية مجتمعية واقتصادية وسيادية.


  • أزمة العراق اليوم أزمة إدارة حكم أكثر من كونها أزمة تأسيس دولة، وإعادة النظر البنيوي بطبيعة النظام السياسي لإصلاحه يتطلب العودة إلى قواعد التأسيس الدستوري للدولة قبل كل شيء، وإلى حاكمية المؤسسات الدستورية وفرض إرادتها. كذلك، لا مفر من إصلاحات جوهرية لبنى الدولة وفي مقدمتها الإصلاح المالي والإقتصادي والتنموي وإلاّ سيعجز النظام عن إدارة الدولة.


  • التحوّل النوعي بمسار الحكم ضرورة، على أساس من دستورية النظام وحاكمية المؤسسات، وخطط الإصلاح الشامل المؤلم والعميق لبنية الدولة ومؤسساتها. إنَّ الحكم الدستوري الفعّال والمُلزم والضارب هو ما يحتاجه العراق لإنقاذ الدولة.
تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن