د. علي الشيباني
إن أي تجربة مسرحية مع أصحاب الاحتياجات الخاصة تكاد تكون متفردة وذات أهمية وتميز لما تمتلكه من خصوصية في الجانبين الإنساني والفني .
ان تجربتي في هذا المضمار تمتد لأكثر من ثلاثين عام عبر تقديم مسرحيات متعددة ومتنوعة مع الفئات المختلفة من أصحاب الاحتياجات الخاصة. وكان المؤدون جميعهم من (المعاقين حركيا . الصم والبكم . المكفوفين . المتلازمة داون) .
وهنا لابد من القول ان العمل مع هؤلاء يستدعي أقامة ورش فنية مستمرة في فنون المسرح المتنوعة وبالذات في ورشة ( كتابة النص/ والتأليف . و
فنون الأداء التمثيلي) . ولأجل الوقوف على جزء يسير من آليات الاشتغال المسرحي سأختار فئة المكفوفين كعنوان لروقتي المختصرة هذه بغية معرفة الطريقة والأسلوب المعينين في الشغل مع المكفوفين .
آليات اشتغال الأداء التمثلي مع المكفوفين باختصار أبدا من الكيفية التي يتم بها حفظ الممثل الكفيف للحوار المسرحي والتي تأتي بالغالب عبر التلقين بطريقة ترديد الحوار الذي ينطقه المخرج ويردده من بعده الكفيف .
او في بالأحرف البارزة المعروفة بطريقة ( برايل) . او بتسجيل الحوار على اجهزة الموبايل الخاصة بهم .
وفي بعض الحالات يتم تسجيل الحوار صوتيا من قبل المخرج على جهاز تلفون الكفيف .
وهذه الطريقة الأخيرة تكون في بداية التمارين وبعد فترة قصيرة نتركها كي لا يقلد الكفيف صوت المخرج اعتمادا على ما اختزنته ذاكرة الممثل من حوار بغية الإضافة او الحذف وبذات معاني الحوار .
أما عن الآلية التي نعتمدها مع الممثل المكفوف في التعبير عن حالات الحزن والضحك لا سيما أنهم لا يرون أنفسهم ولا يرون الآخرين فان ذلك يأتي عبر الصوت فقط ومعاني الحوار الذي ينطق به وتنمية الإحساس بما يحيط به وباستجابة الجمهور في لحظات الأداء في كلتا الحالتين الحزن والضحك .
وفي الكيفية التي نعتمدها في تشكيل الحركة على خشبة المسرح من قبل الممثل الكفيف لاسيما أنهم لا يعرفون المساحة الجغرافية لخشبة المسرحية .
فيتم ذلك عبر إعطاء المكفوف قياسات تقريبية عن حجم صالة التلقي وعدد الكراسي ومساحة الخشبة (طولا وعرضا) يضاف الى ذلك وضع (حبال) ثابتة على ارضية الخشبة مغطاة بشريط لاصق لا تعيق حركة الممثل , وهذه الحبال تكون ممدودة بالعرض وبمسافة (واحد متر) بين حبل واخر من عمق المسرح باتجاه الصالة ونهاية الخشبة يتحسسها الكفيف بقدميه الحافيتين ليعرف مكانه واتجاهه من الجمهور, هذا حين يكون المسرح فضاء مجرد خال من أي ديكور او اكسسوار وفي حالة توافر الديكور والاكسسوار وهنا فان السبيل الناجح للحركة هو الاعتماد على (العصا البيضاء) التي هي بيد الكفيف بغية تحسس وملامسة ما حوله . في العادة لن تكون جغرافية خشبات المسارح متساوية في المساحة ( الطول والعرض) ولذا فان أي تغير في خشبة المسرح ومكان العرض يستدعي منا اعادة التدريب على وفق ما تغير من مكان .
وهنا لابد من الاشارة ان هنالك فروق فردية بين الممثلين المكفوفين من حيث الإعاقة (ولادية- طارئة) والعمر، و المستوى الثقافي والتعليمي وهي واضحة وكبيرة من حيث الاصابة بالعمى فالمصابين بالعمى متاخرا بسبب حادث او مرض فانهم اكثر استجابة لملاحظات المخرج بعكس المصابين بالعمى الولادي .
ان الالية التي يتم بها استغلال ملكة الممثل الكفيف في التصور البصري والتخيل هي ان نتبع الطريقة التي ترى ان كل الوقفات والسكنات والحركات والتكوينات الظاهرة على جسد الممثل ماهي الا تصورات وخيالات قادمة من داخل الممثل الى خارجه .
بمعنى اننا نستند في البروفات على تكوينات وتشكيلات مصنوعة قصدا على ظاهر الممثل لتفضي الى دواخله التخيلية .
ما تقدم هو شطائر لمادة مختصرة من موضوع بحث ينفتح على افاق ومعارف اثناء اللقاء في الموتمر الفكري – مهرجان المسرح العربي 2024- بغداد - العراق . تقول الممثلة البريطانية الكفيفة (شلوى كلارك (التي قدمت أعمالا بارزة ضمن تجربة مسرح المكفوفين في بلادها " إن اقتحامَ المكفوفين لصناعةِ المسرح كانتْ أمراً ضرورياً لعدة أسباب، في مقدمتها رغبتهم في التحدي والردّ على مفاهيم خاطئة شائعة عنهم بأنهم غيرُ قادرين على التعاملِ مع هذه الصناعة الرائعة .
في العراق لم يكن تحقيق هذه الرغبة بالأمر اليسير لاسيما في ظل ظروف اجتماعية وفنية وتقنية عموما، فكيف يمكن لمكفوفين أنْ ينجزوا عملاً متكاملا موضوعاً وشكلا وتحسساً لادوات العرض.
انها المهمة العسيرة والتحدي الذي على المخرج علي الشيباني وهو يخوض غمار هذه التجربة اللافتة بنجاح ليقدم اكثر من عرض مسرحي ( اوفر بروفة) و (مسرحية البوصلة) و( معكم وبدونكم) و ( يازارع البزرنكوش ..من هؤلاء ؟) ليثبت المكفوفون بأسباب حالاتهم المختلفة - حيث يصنف المكفوفون عادة الى الكفيف التام وضعيف البصر الذي يعتبر كفيفا قانوناً رغم رؤيته القليلة التي لايمكن ان تتم الا بادوات مساعدة - أن العراق الذي شهد انجاز جميع أشكال العرض المسرحي في تاريخه قادر على انجاز تجربة مسرح المكفوفين ما يشجع على احتضان المعاهد الفنية وأكاديمية الفنون لطاقاتهم ولهذا النوع من العروض، كما يحتم على مؤسسات الدولة ايلاء العناية بهذه الشريحة عموماً واتاحة جميع السبل القانونية والتشريعية لرعايتهم واكمال نواقص حياتهم عموما .
مايؤكد ان هؤلاء المكفوفين المبدعين رأوا المجتمع في أدق صوره من قاعه الى قمته، وامتزجت في ارواحهم ومواقفهم الرؤية الإنسانية والوطنية لما آل اليه المجتمع والوطن من مظاهر وازمات ، وكأنهم راوا كل شيء ونجحوا ايما نجاح في قول جوهر التجربة " ان المكفوفين الذي طالما ابدعوا في مجالات فردية من الانتاج الادبي والعلمي هاهم يقتحمون اكثر الفنون صعوبة وجرأة واعتمادا على الذات والمواجهة المباشرة مع الجمهور ( المسرح ) ليرسلوا رسالة الفن والحياة من خلاله بمهارة .
وكأنّ المسرح فتح أعينهم ليفتحوا أعينَ المشاهدين لما يريدون ايصاله ومايجسّدونه من فعل واقعي ورمزي في آن واحد . تاركين المشاهدين مندهشين محاطين بالاسئلة، كيف حفظ هؤلاء ادوارهم ؟ هل ساعدتهم التكنلوجيا على ذلك ؟ هل قرأوا النصوص على طريقة برايل ؟ ام سجلت الحوارات لهم تسجيلاً ؟ ماهو التفاوت بدرجات عجزهم عن البصر؟ ، كيف يتحركون على المسرح بخفة وانسيابية دون أن يصطدَم أحدهم بالاخر ؟ كيف يتوقعون أشكالهم وأزياءهم التي يشاهدها الجمهور؟ اسئلة تجيب عليها قدرة المخرج على إنجاز ذلك كلّه ومواهب الفنانين التي برزت خلال تلك العروض المتعددة ِ. من المتعارف عليه ان الكفيف يتمتع بصوتِ عالِ فكيف يتم التحكم في ارتفاع صوته لا سيما انه يعتقد ان صوته العالي سبيلا لايصال مايريد طرحه من افكار, فان الطريقة الانسب بالتحكم بصوته تاتي عبر البروفات الكثيرة والتي يسبقها غالبا ورشة مسرحية في فنون المسرح المتنوعة وبالذات في ورشة ( كتابة النص/ والتاليف . وفنون الاداء التمثيلي) هذا فضلا عن ادراك المسافات البونية بين مجموعة الممثلين فيما بينهم والصالة / الجمهور, ولذا فأن الفترة الزمنية للتمرين مع المكفوفين هي أكثر من الفترة الزمنية لو كان العمل مع المبصرين .
لان حفظ النص والتعود على الحركة والاستجابة لملاحظات المخرج وتنفيذها بصريا تحتاج الى فترة زمنية اطول .
ان عمل الممثل الكفيف مع ممثل مبصر سيجعل الاداء التمثيلي للمكفوف افضل لو انه عمل مع ممثل مبصر حيث سينتابه شعور بالطمأنينة فيما لو حدث عارض اثناء البروفة او العرض لخلق حالة التواصل مع الممثلين الآخرين وان السبيل الاساسي لخلق حالة التواصل هذه تعتمد على آلية الصوت بشقيه الانساني والافتراضي وما نطلق عليه المؤثرات الصوتية, وحين تكون فكرة المسرحية قريبة من وجدان الممثل الكفيف وبالذات حين تتبنى الفكرة هواجس وتطلعات ورغبات الكفيف . فضلا عن كل فكرة تقربه من المجتمع وتجعله مندمج مع محيطه الاجتماعي .
فان صوته المدرب سوف يكون منسجم تماما مع مع الحالة المراد توصيلها للمتلقي, فضلا عن السماح للكفيف بإبداء الرأي واعطاؤه زمن كبير في تحليل والتفسير لشخصيته من جانبها الانساني مع فكرة البوح عما يختلجه من افكار عن الشخصية المناطة به .
وعبر وجود الكفاية اللغوية من خلال المرسل والمرسل اليه ويتم فيها غايات تاثيرية التي تحدث بين الممثلين المكفوفين وبين التلقي أي تتحقق بين المرسل والمرسل اليه عبر الحوار المرتجل واحيانا التلقائي. حيث تظهر اللغة في سياقها الاستعمالي في الحوارات وكيفية يمكن للمخاطبين بين الشخصيات والتلقي فهم بعضهم البعض .
ان التصور البصري لدى المكفوف يمكن ان يتبع الطريقة التي ترى ان كل الوقفات والسكنات والحركات والتكوينات الظاهرة على جسد الممثل الكفيف ماهي الا تصورات وخيالات قادمة من داخل الممثل ومرئية على خارجه , بمعنى اننا نستند في البروفات على تكوينات وتشكيلات مصنوعة قصدا على ظاهر الممثل لتفضي الى دواخله التخيلية بوصفها صور مرئية .