كتب : عبد العليم البناء
يتواصل تساقط أوراق شجرة الابداع العراقي الذهبية التي رصعت تأريخ العراق وتتزايد اللوعة على رحيل كوكبة مبدعيه في شتى المجالات وفي مقدمتهم أولئلك الأفذاذ من رواد الثقافة والفنون لاسيما الذين ساهموا بصياغة مسيرة المسرح العراقي، ومنهم الفنان القدير الرائد أديب القليجي الذي رحل عن عالمنا – كما هو حال الكثير من أقرانه- في صقيع الغربة التي التاذ بها هرباً من بطش الديكتاتورية والاستبداد والطغيان الذي جثم طويلاً على وطنه العراق الذي لم يغب عن باله وعقله وضميره لحظة واحدة، طوال منفاه وغربته وحتى رحيله رحمة الله عليه.
المتتبع لسفر ابداع هذه الفنان الكبير كانت في بواكيرها في مدينته الموصل التي ولد فيها عام 1940 من عائلة تهوى وتميل للثقافة بصنوفها، فبدأ وهو لم يزل طالباً كاتباً ومحرراً في جريدة (فتى العراق) عام 1957، كما بدأ حياته الابداعية في المسرح ممثلاً في مسرحية (عدالة الله) ليوسف وهبي واخراج نعمان الانصاري، ومخرجاً لمسرحية من اعداده (ملا عبود الكرخي) فتوالت ابداعاته المسرحية في الاخراج والتمثيل حتى أواسط عام 1960:(راس الشليلة)، (حرمل وحبة سودة )،(آني امك ياشاكر)،(تؤمر بيكَ) ليوسف العاني ..
وما أن حط رحاله في العاصمة بغداد انتمى الى (فرقة شباب الطليعة) التي كان يديرها الفنان الكبير بدري حسون فريد وساهم في أغلب اعمالها المسرحية والتلفزيونية حتى عام 1964لينتقل لمدة وجيزة الى مدينة الناصرية لينشط فيها مسرحياً فأخرج مسرحيات عدة، منها (داء النسيان )، (أحلام فارغة) اللتان قدمتا في مسرح نادي الموظفين ومثلت في هذه المسرحيات أربع من النساء للمرة الأولى في تاريخ المدينة.
فعاد الى بغداد ثانية ليواصل مشوراه الإبداعي، ففي عام 1966 أسس (فرقة الصداقة) وترأس إدارتها وأخرج أغلب اعمالها التي عرضت في مسرح الصداقة، ومسرح بغداد، والمسرح القومي وبعض المحافظات، ومنها: (الغضب) لعادل كاظم، (تراب) لطه سالم، (الحرباء) لمحيي الدين زنكَنه، (المخاض) لمهدي السماوي، (صندوق الدنيا) لعبد الصاحب ابراهيم، وغيرها.وفي عام 1969 ساهم في تأسيس وإدارة وأخراج أغلب أعمال فرقة (مسرح اليوم)التي كان يرأسها الفنان المبدع جعفر علي.وفي عام 1974 اقترح على الفنان الكبير المرحوم جعفر السعدي اعادة الحياة لفرقة (المسرح الشعبي) وتم انتخابه في تشكيلتها الجديدة سكرتيرا للفرقة التي باشرت بتقديم اعمالها في مسارح بغداد، ومنها (مسرح الستين كرسي) إبان سبعينات القرن الماضي في شارع السعدون، حيث تفتق ذهن القليجي عن فكرة لإيجاد مكان بديل لعروض الفرقة، فكان مسرح الستين كرسياً في عمارة الأخوان في شارع السعدون وسط بغداد، واستمر في عمله مع فرقة المسرح الشعبي حتى مغادرته العراق مع زوجته وداد سالم وأطفاله (ميديا، وياسر، وتمارا، بعد أن دنى خطر القمع والاضطهاد الاستبدادي منه وسواه من المثقفين التقدميين وهو في أوج عطائه وإبداعه فكان رحيله في شتاء عام 1980 الى بلغاريا التي كانت مستقر القليجي وزوجته الفنانة وداد سالم.
القليجي كان للتلفزيون العراقي حصة من إبداعه فساهم ممثلاً في الكثير من السهرات والمسلسلات،أشهرها: (الحارس) التي تناوب على إخراج حلقاتها عبد الهادي مبارك وابراهيم الصحن، (كنز السلطان) إخراج خليل شوقي، (الدواسر) إخراج ابراهيم عبد الجليل، وغيرها. وأجيز له البرنامج التلفزيوني الدرامي الأسبوعي (مسرح الخميس) في تلفزيون بغداد آنذاك .... ومن اخراج الراحل محمد يوسف الجنابي.وكان عضواً في نقابة الفنانين منذ تأسيسها وأنتخب اكثر من مرة لهيئاتها الادارية، وعمل محرراً لنشرتها (مسرحنا)، اضافة الى عضويته في المركز العراقي للمسرح التابع لليونيسكو وحتى مغادرته للوطن.
وكان أن حط رحاله في صوفيا العاصمة البلغارية فدرس المسرح في المعهد العالي للفنون المسرحية وتخرج بدرجة ماجستير في الإخراج المسرحي، وكان مشروعه مسرحية (الكيمياوي) لبن جونسون وتم عرضها بمسرح (أوجين تياتر) المخصص لأساتذة المعهد لأكثر من ستة أشهر واشترك فيها أكثر من 22 ممثلاً وممثلة بلغارية، كما مثل وشارك في الكثير من الأفلام السينمائية والأعمال المسرحية لعراقيين وبلغار وعرب، ومنها أفلام: (عرس فلسطيني) اخراج صلاح قدومي، (أحداث ليوم واحد) إخراج حسين السلمان، (سامر يتجه غرباً) إخراج حكمت داوود، وفي اخراج (أغنية التم) لتشيخوف، والتمثيل في مسرحيات: (الجرح المكابر)، (القَسَم) إعداد وإخراج الدكتور فاضل السوداني،(شهادات من زمن الفجيعة ) اخراج حسين السلمان .
ساهم في أكثر من تجمع ثقافي لمعارضة وفضح السلطة الحاكمة العراق، وساهم في تأسيس فرع رابطة الكتاب والفنانين والصحفيين الديمقراطيين العراقيين، والمنتدى العراقي في بلغاريا وانتخب سكرتيراً لهما لدورات عدة.وفي المجال الاذاعي كان له مساهمات غير قليلة في القسم العربي لإذاعة صوفيا، (صوت الشعب العراقي) المعارضة ليقدم من خلالهما البرامج والمسلسلات والتمثيليات، وأصبح مديراً للأخيرة فيما بعد.
أنجز كتابين مهمين يؤرخان المسرح العراقي ورموزه، أولهما (97 عاماً من مسيرة المسرح العراقي) ويقع بـ 415 صفحة من القطع الكبير منذ التأسيس عام 1882 لغاية عام 1979، وثانيهما (المسرح العراقي مؤسسون ورموز) ويقع بـ 525 صفحة من القطع الكبير، ويحتوي على سير ذاتية وفنية لأكثر من خمسين فناناً مسرحياً فباتا مرجعاً مهماً للأجيال..
لقد كان أديب القليجي واحداً من مبدعي العراق الكبار الذين أعطوا الكثير داخل الوطن وفي المنفى جهدهم وشكلوا علامات مضيئة في مسيرة المسرح العراقي.