كتب :نعيم عبد مهلهل
يكتب التأريخ سيرة المدن من خلال ما تعطي من نتاج وأكثره النتاج الفكري فهو الوحيد الذي يصلح ليكون لسان حال ما كان موجوداً ويري الباحث والقارئ الحقيقة كلها ، ومن هذه المدن التي رسمت للتاريخ خطا مضيئا من المعرفة والرقي تأتي مدينة أور ، فعلى بعد 15 كم شمال غربي مدينة الناصرية تبدو أثار أور المطلة على التأريخ من أوله حيث أنشأ السومريون واحدة من أعرق الحضارات ، ولتبدأ أشراقة بدء الوعي والخطوات الأولى صوب نوافذ المعرفة .
وليس بعيداً عن أور تقع مدينة أوروك السومرية وفيها وضع الحرف خطوط أشجانه المعرفية وبدأت الأبجدية تنطق أناشيد التودد إلى الآلهة ، ونطقت الذاكرة السومرية تساؤلاتها بحروف مسمارية دونت على لوح الطين خطوطاً متساوية الاتجاهات ومدببة النهايات لتكون اللغة المفهومة الأولى في العالم .
وعندما كانت هناك مدينة أوروك التي حكم فيها الملك الأسطوري جلجامش الذي كان يـُيـَمم إلى أور في مواسم أعيادها الكثيرة ليأخذ من الآلهة النصح والأرشاد كي يبدأ رحلته الأسطورية المعروفة بحثاً عن الحياة الدائمة التي لم يحصل عليها .
ومع أوروك كانت هناك مدن سومرية أخرى لها ريادات كونية متعددة كمدينة أريدو التي تبعد عن مدينة أور 15 كيلومتر والتي تفتخر من بين مدن فجر السلالات أن أهلها السومريين أو غيرهم ممن سكن هذه البقاع هم أصحاب حضارة( العبيد ) ، الذين أبتنوا أول المعابد قبل أن تعرفها الحضارات الأخرى للتقرب من السماء ومنادمة الآلهة ، وفي الديانات التوحيدية كانت بيوتا لذكر الله وعبادته والتقرب إلى رحمته الكونية ، ومع أريدو كانت هناك مدن لارسا وتلو ولكش وسنكرة ومدن أخرى اجتمعت في نفس المحيط الحضاري الذي شيدت عليه أور مجدها العظيم .
في ظل هذا الأديم الذي تكاملت فيه رؤى الأنسان الأول ، ومع أنتشار السلالات وتعدد اتجاهات الشعوب في لهجات وأمم ، كانت أور سباقة لتكون منشأ كل ماهو طيب ، وكان أهلها يفكرون قبل غيرهم بأسرار الموجودات التي يرونها حولهم حيث كان الخليج قبل مكانه الحالي يلطم بموجه الهادر أسس مدينة أور قبل أن يبتعد عنها ، لتبقى اليوم بعيدة عن النهر بعشرة أميال من جهة الشرق .
وبالرغم من هذا كشفت أثريات هذه المدينة قدرة أهلها على شق الأنهر والترع والقنوات لنقرأ فيما تركوه من كشوفات أن التجارة النهرية لهذه المدينة أوصلت سفن السومريين إلى دلمون التي هي اليوم مملكة البحرين وكانت تعتبر قديماً الجنة المفترضة للخلود السومري ، وكانت لأور أيضاً معاملات مع ( مكان ) التي هي اليوم سلطنة عُمان ومع بلاد الهند وكانت الأحجار الكريمة تجلب من مناجم (باداكشان) في أفغانستان ، والفخار المميز من كرمان وسط أيران ، ويقال أن تجارة هذه المدينة امتدت شمالاً حتى أرمينيا في أسيا الوسطى .
غير أن أهم مايميز المدينة ارتباطها بالرؤى السماوية الأولى عندما أعتقد منقبها الأول والذي أكتشف أغلب تراث المدينة وأهمها كنوز مقبرة أور الملكية التي تعود الى ملوك وأمراء سلالة أور الثالثة العلامة البريطاني ( ليوناردو وولي ) الذي سحره الأعتقاد في بدء التنقيبات أن سيجد ذكرا في الألواح لللنبي ابراهيم ع ،وكما جاء في مذكرات من رافقه في رحلة التنقيب مساعداً وهو العالم الأثاري ( ماكس مالوان ) زوج الروائية الأنكليزية الشهيرة ( آجاثا كرستي ) قوله في الصفحة 36 من المذكرات مانصه : ( كانت المغريات التي أجتذبت وولي للعودة الى أور في ذلك هائلة ، لأنها كانت مدينة قديمة مبجلة أرتبطت أرتباطاً وثيقاً بالعهد القديم ، وكان مايزال هناك عدد كبير من قراء الكتاب المقدس .
لقد جعلت التنقيبات رحلة ( تارح ) أبي إبراهيم يسيرة الفهم لأن حران مثل أور كانت مركزاً لعبادة القمر . وكان وولي يأمل دائما في أن يكتشف بعض الأشارات إلى إبراهيم ، ورغم أن أسمه لم يظهر أبداً في سجل الألواح المسمارية ، إلا أنه أفلح في أعادة تكوين خلفية الوطن الأصلي لنبي العهد القديم هذا قبل هجرته .هذه المدينة والتي عانت من أهمال مقصود عبر حقب عديدة من دولة العراق الحديثة منذ أن سمح للبعثات الأثرية بنبش أرض أور وسرقة كل كنوزها الأثرية التي تعرض اليوم في متاحف أوربا وأمريكا .
ويبدو أن النبي الكريم عاش في أور ردحاً من الزمن أكدت انتماءه إلى هذه الأرض ، ماحقاً بذلك كل الأدعاءات القائلة كاليهودية بأنتساب إبراهيم أليها كما ورد في سورة آل عمران من الذكر الحكيم ( ماكان إبراهيم يهودياً ) وعندما جاهر بالدعوة كانت أور موطنها الأول ، وهذا ماتؤكده الآية الكريمة من سورة الأنبياء (( ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين * أذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا اباءنا لها عابدين ))