كتب : د. جبار صبري
تعالوا نعيد ترتيب الأحداث من جديد.. تعالوا نلتفت الى زوايا الضحايا والمفجوعين والتعساء والمجرمين وغيرهم ممن عانى وركب بحر الشقاء، سفينةً ونداءً وطريقة حياة. تعالوا لنعيد تشكيل أقدارنا وخلاصنا في آن واحد. إن شريط الفيلم الذي وقعت أحداثه فينا وكانت أوراقه في رفوف تاريخنا الشخصي والعائلي والوطني وحتى الوجودي يمكن أن نتمرد عليه، ننتفض ضده،. نقاوم أسلوبه في التعبير علينا. نختار دالة توجيه مساراته إذ أن تلك المسارات هي حيواتنا بالنتيجة. نختار ترتيب أنفسنا وتشكيل صورتها بمثل ما نريد أو بمثل ما وقع حقاً وتم تحريفه.ومن مرايا القدر التي عكست صورنا مغلوطة نبدأ.. منها نبدأ واليها نعود.. نعود بعد طمس أنفسنا في قاع بديهية الجرم أو الشقاء أو الموت قتلاً.. تلك البديهية التي اعتادت البشرية جمعاء على تصديقها بل جعلها رمزاً ومثالاً لكل حالة من حالات عذابنا: عذابنا الذي لم ينته يوما ما أبداً برغم جريان وتدفق مئات السنين. نعود ولتكن تلك العودة من حيث مستقرنا في عوالم سفلى كما كتبها علينا غيرنا وأصبحت مثالا للخطيئة والرذيلة والعقوبة والابتلاء.. هكذا يبدأ التنويه هنا بأننا سقطنا على خديعة: خديعة من؟ خديعة أنفسنا من أنفسنا ابتداءً وخديعة من جعلنا ومسار مصيرنا على قدر واحد في مدونات التاريخ.
شكسبير طغى: هذا ما يصرح به منير راضي، مؤلفاً مسرحياً، بل أفرط بطغيانه. نعم لقد طغى شكسبير بوصفه:
- وجّه مسار الأحداث على رغبته ونوازعه..
- رسم الكثير من الفخاخ التي ورطت شخصياته الدرامية بالجريمة أو القتل أو الشقاء المجاني..
- قلب التاريخ السابق بهم الى تاريخ لاحق عليهم.
- أنزلهم قاع الخطيئة.
- دمّر سمعتهم.
- بل الأخطر من ذلك كله بقيت خطيئاتهم دائمة الحضور في كل وقت وبعد مئات السنين.
التفت منير راضي بعد خمسة قرون الى لحظة عدل من زاوية نظر أخرى ومرآة تعيد انعكاس صور ضحايا وشخصيات شكسبير من وجهة منقلبة، تعيد إليها مصيرها من حيث إعادة حقها في اختيار مسارها وأحداثها من جهة، ومن حيث مصداق تاريخها قبل وقوع اسقاطها في فخ درامية شكسبير الخادعة من جهة ثانية. إذن، كان لزاماً أن ينتفض الكاتب منير إزاء الكاتب شكسبير انتفاضةً من شأنها تغيير وكسر أنماط الصورة المعذبة والتي أرسى تنميطها شكسبير وتحقيق مغايرة بل تحقيق انقلاب يقصده المؤلف منير في مواجهة المؤلف شكسبير.
إذن، شكسبير متهم وإقامة التحقيق فيما فعله لزم تشخيص محكمة معلنة أو خفية: محكمة من شأنها أن تستدعي شكسبير لا بوصفه بطلاً خالداً في التأليف بل بوصفه مريضاً ومجرماً عذب ضحاياه في رسم مصير لهم حطّ الكثير من قدرهم وتقديرهم.
من هنا بلغت نصوص منير راضي في مواجهة المتهم شكسبير موجهات مضادة. موجهات تعمل على إعادة ترتيب الأحداث لا بما وقعت أدباً درامياً شكسبيرياً بل بافتراض رفع الحيف الشكسبيري عنها وذلك من خلال:
- النظر اليها كشخصيات تاريخية على وفق اعتبارها الصادق المدون قبل تحريفه.
- منح تلك الشخصيات فرصة لتحقيق واقعها الذي ترغب به وهو مصداق لحقيقتها في حراكها أسلوباً وحياة أبان أحداثها.
- تشخيص الخديعة والزيف الذي لعبه شكسبير في تحديد مسار ومصير تلك الشخصيات.- إقامة الحد على شكسبير.
- كسر وتغيير نمطية الصورة التي فرضها على البشرية جيلاً بعد جيل..
ومما يشدنا أكثر الى ما وقع عليه المؤلف منير راضي أنه وقع على فرض أدلة يقبلها العقل: عقل القارئ لما حدث أو حدث بالرغم من أنف تلك الشخصيات الدرامية: مكبث، عطيل، لير، هاملت… جاهداً من وراء ذلك إعادة تشكيل الأحداث لا بما أراد شكسبير وقدم طغيانه في تحديد أطر تلك الشخصيات في نصوصه وفي أرشيف ذاكرتنا الجمعية عليه.
تعالوا إذن، الى شكسبير: إنه طغى.