عبد العليم البناء
يواصل الأستاذ الدكتور علي محمد هادي الربيعي الحفر التوثيقي في مسارات المسرح العراقي بمختلف تمظهراته ومبدعيه ورموزه التي قدمت إنجازات شملت: التأليف، والإخراج، والتمثيل، وبقية عناصر العرض المسرحي، فضلاً عن الفرق والمهرجانات المسرحية، ما كان منها محلياً أو عربياً أو دولياً، حتى جاوزت مؤلفاته وإصداراته المطبوعة حتى الآن الثلاثين مؤلفاً، أهلته ليكون (حامل راية التوثيق المسرحي في العراق)، في امتداد نوعي ومعرفي لـ( رائد التوثيق المسرحي الأول في العراق) الراحل أحمد فياض المفرجي، ونظرائه ممن تولوا هذه المهمة الأصيلة، بل فاقهم جميعاً الأستاذ علي محمد هادي الربيعي بما قدمه من منجز توثيقي باذخ بالدقة والموضوعية، لأنه اتسم بالسعة والتوغل في حيثيات أي ظاهرة أو قضية أو نص فات الجيل الجديد والقديم، التعرف عليه أو الوقوف عنده، واتبع منهج البحث العلمي الرصين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه أو يثير الشبهات عليه، حفاظاً على تأريخ هذا المسرح العريق الذي مضى على انطلاقته - حسب الربيعي ذاته - 150عاماً، وبات من أكثر الأمينين على هذا التأريخ الناصع إن لم يكن الوحيد الآن.
وكما هو معروف، فإن عدداً لابأس به من تصدى الى كتابة نص مسرحي عن واقعة الطف الخالدة وبطلها سيد الشهداء الإمام الحسين بن علي عليهما السلام، وهاهو الربيعي يتحف الوسط المسرحي والثقافي كله، بكشفه التوثيقي الجديد، وهو نص مسرحية (الحُسين) لمُحمَّد الرِّضا شرف الدّين؛ (صاحب كتاب المراجعات) المشهور، هذا النص الذي مضت عليه تسعون سنة، ليقدمه مطبوعاً في كتاب حمل عنوان (من خزانة المسرح العراقي ..
مسرحية الحسين لمحمد الرضا شرف الدين) صادر عن مؤسسة الصادق للطباعة والنشر والتوزيع، في محافظة بابل العراقية، وزاد على (200) صفحة من الحجم الكبير، وتوشح بقصيدة رائية في حق شهيد كربلاء عليه السلام للشاعر عبد الباقي العمري الموصلي.
الربيعي يذكر في مقدمة الكتاب مؤكداً:" في هذه السَّنوات تسنَّى لقسمٍ من قُرَّاء المسرح ومتابعيه والباحثين في شؤونه وهمومه أن يقرأ النَّص، والقسمُ الأعم والأغلب لم يحظ بقراءته أو الاطلاع عليه لقِدَمهِ من جهةٍ وعدم توافره – بل ندرته – من جهةٍ أخرى"، وعلى أهمية هذا النص وفرادته، إلا أن الربيعي لم يرد طباعته وكفى، حيث تسنَّى له قبل ثلاثِ سنواتٍ أن يشترك في المؤتمر الفكري لمهرجان المسرح الحسيني الذي عقدته العتبة العباسيَّة في كربلاء ببحث (وقعة الطَّف بين التَّاريخيَّة والرُّؤيَّة الدِّراميَّة – مسرحيَّة الحسين أنموذجاً) وقد لاقى البحثُ - حسب الربيعي – "حُظوة لافتة عند الحاضرين لعدم سماع جُلَّهم بهذه المسرحيَّة، ومن سَمَع بها أو من قرأ عنها في المَظان لم يتسنَ له قراءتها أو الاطلاع عليها، وتسهَّمَتْ الأسئلةُ نحوي بخصوص نَص المسرحيَّة، ورغب عددٌ من المشاركين في المؤتمر نسخ المسرحيَّة ووضعها في المكتبة"، ومن وقتها "بدأَتْ تلحُّ علي - يقول الربيعي - فكرة إعادة نسخ المسرحيَّة كي يتحقق للمسرحيين والقارئين قراءتها وللباحثين رصدها في بحوثهم."
الربيعي قدِّم "للمسرحيَّة بدراسةٍ وافيَّةٍ عنها وعن مؤلفها كي تزداد الفائدة المتوخاة"، معتمداً خارطة طريق بحثية رصينة خارطة سلكها في اتمام الكتاب لكنها كانت مجدية ونافعة، فلم يتدخل في متن النَّص ولم يزد عليه أو ينقصه كلمةً واحدةً، بل أعاد "نسخه وطباعته وفق الهيئة الإخراجيَّة في طبعته الأولى، وبإملاء الكلمات نفسها، وبالهيأة نفسها"، وحين وجد "في متن النَّص الأصلي ست لوحاتٍ رسمها الفنان العراقي الرَّائد الراحل حافظ الدّروبي جانبت الأحداث التي عبَّرت عنها ودعمتها، أعاد مجانبتها في أماكنها."
وكما اعتاد في مؤلفاته فقد لجأ الى "هوامش تعريفيَّة دعمت الرؤيَّة الدِّرامية، لفتح الآفاق أمام القراء لمزيد من التَّأمل والاستغراق بالأحداث"، وبالاعتماد على "مصادر تاريخيَّة رصينة لا يختلف اثنان في موثوقيتها ودقتها وثبتها في سرد روايَّة وقعة الطَّف"، وعرَّف بالعديد من الكلمات التي وردت في متن النَّص، لعدم تداولها وشيوعها في الوقت الحاضر، ليُحقق التَّواصل ويطرد الفجوة والابهام عن التَّلقي في النَّص."
كما قام بالتعريف "بالأعلام الذين وردت أسماؤهم في النَّص، وتلخَّص التَّعريف بالقدر الذي يظهر به أمام القارئين المعلومات الابتدائيَّة عنهم، ويفتح المغاليق أمام من يريد الاستزادة في أمرهم."، فوصل بعض الأبيات الشّعريَّة التي استلفها المؤلف ورصفها في حوارات المسرحيَّة، ليعيدها الى أصلها، وتبيان موارد نظمها وصيغتها الأولى.
إن هذا المجهود البحثي التوثيقي الرصين يغبط عليه الباحث التوثيقي الأصيل البروفيسور علي محمد هادي الربيعي ، لأنه يمثل إغناءً للمكتبة العراقية والإسلامية عامة، وللمكتبة المسرحية الحسينية خاصة وهو لا يقدر بثمن.