المواطن / لندن / نعيم عبد مهلهل
بصرياً يقع الفنان العراق جلال علوان المقيم في لندن في زاوية التفسير بصيغة الدهشة ،وهذا ليس مصطلحا أو بديهة لا تقبل النقاش انما الامر يتعلق بذائقة الرائي والناقد ومتذوق الفن .
فالذي ينظر الى عمل يرسمه جلال علوان أن ينتجه نحتا او فوتوغراف ــ مونتاج او فيديو ارت او في مشاريعه الاخرى كتلك التي يجسدها بعدا جماليا منظورا ومحسوسا كأثاث البيت انما هو يحرك زويا النظر في حياتنا الى جهات تكاد أن تكون طقسا يوميا لا ننتبه اليه كثيرا ، وكأن عند جلال علوان غاية جمالية وفلسفية ان تكون الارائك مثلا هي استعادة لطقوس الامكنة وذكرياتها وتقليب الوجوه وتسجيل تواريخ احلامها منذ الطفولة وحتى لحظة الرحيل الى جهة ما ازلية او لحظة حقيبة سفر او هجرة كالتي اشتغل عليها في مهاجرون كمشروع لقراءة الاحساس الغامض حين تنأى الاشياء بصاحبها وتتحول الى دمعة وغربة ولوحة رسم.
ثم تأتي الاحاسيس عند من يتفقدها ليرسمها حالة وهاجس وموهبة فتأتي رؤيا اللوحة في متغيراتها حياة تتعدد اشكالها ولحظات العيش فيها وزوايا النظر ، فجلال علوان يتجانس مع ما يستقر في ذاكرته واغلبها الاحلام التي تهوى المتغير والتجديد وقد يظنها البعض في تفسيرها شطحة صوفية أو انفلات سريالية او قراءة للواقع المعاش وأظن أن جميعها تستقر في ريشة جلال وذاكرة جلال واحلام جلال وموهبة جلال علوان.
هذه الموهبة تسجلها الأفكار الملونة التي تصوغها جمالية تتعدد فيها فلسفات الرؤية التي يريد فيها جلال علوان ان يجعل متأمل لوحاته او اشكاله يعيش خارج المألوف حيث تلجا خواطره الابداعية بأشكالها المتغيرة الى فسح لحظة لتأمل الحدث وافتراضاته ومنها ماهو يلتقي مع البيئة وجماليات اشيائها او مع الحدث روحيا كان او مجتمعيا او سياسيا او فلسفيا.
ومن يتأمل تلك الموجودات التي تبث روحها مع شرح قد لا نحتاج الى ان نسمعه من جلال علوان ليشرح لنا رؤية ومحتوى وهدف اللوحة لأنها توصل فكرتها دون شفاهية بالكلام لأنها تعتمد على البث الشرحات الحسية لعالم تتعدد فيها الاحلام وتحاول الموهبة ان تحرر رغبتها لتنتج شيئا من نمطية ما قد تحتفي فيه جدران الفن ،لهذا فأن رسومات ومنحوتات وابداعاته الاخرى في مجملها هو صنع مجموعة جمالية تخص علوان نفسه وتمثله وتميزه وقد حمل غربته معه والتي لم تصبح اسيرة للأمكنة الجديدة بل ظلت تناوش بأحلامها ومنجزاتها ذاك الموروث البعيد لأمكنة الاحلام لغرامياتها وحقولها ومحلاتها التي احتفت بشهرزاد حكاية الهاما وتراثها ، لكن ما يميز جلال علوان هو الحداثة في التجريب واتخاذ مسارات اخرى لجماليات قد تراها على الرصيف في كاليري العرض او الحديقة العامة او اي مكان تشعر فيه لوحه جلال علوان انها تؤدي رسالتها .
يقول الرائي في داخل لوحة جلال علوان : ان اللوحة التي لا تنطق بلغتها الخاصة لن تستطيع أن تحدد لنا فهما واضحا عن مكامن الجمال فيها وما الذي تريد ان تقوله ، لهذا يشعرك عالم جلال علوان ان الامكنة هي من تكون قاعدة للعمل وتؤثر في بنيته الجمالية وصبغته الروحية ليصبح ادائها فعالا عندما تنشئ فيه تجربة جديدة سببها المكان الجديد الذي ظل مرتبطا باك الماضي الذي ترتوي منه اشيائنا وتبدع في نتاجها الجديد. فالمكان المعاش في سحره الجديد جلب وجوها جديده على الرسام ان يتفاعل بها ويغير الكثر من بوصلة الرؤى فيما يريد ان يبدعه ،وعليه ان ينتبه الى كائنات جديدة من البشر عليه ان يتعايش معهم وربما يكونون جزءا من الهامه الجديدالغريب ان اغلب هؤلاء لا ينتبهون الى سحر المكان الذين يعيشون فيه .
يفكرون بوجبات الطعام وموعد استراحة الظهيرة ليجلب البعض منهم قناني البيرة من السوبر ماركت القريب لينتشوا بشيء ذي ملامح لا يبدو فيها انعكاس روحي أدبي لفعل النشوة معهم .
يسكرون ويهجعون الى قاعات النوم مع شخير مزعج أو يفتعلوا شجارا يكون داميا في بعض المرات فتأت سيارات البوليس وتأخذهم الى المخفر وتعيدهم الى مأوى اللجوء في اليوم الثاني .
ومرات هؤلاء السكارى يتعمدون حرق القاعة حتى يجبروا دائرة الهجرة في المأوى لعمل لهم ( ترانسفير ) اي اسكانهم في المدن حتى قبل موعد مقابلة اللجوء او نتيجتها.
وفي اعمال جلال علوان تشعر بتلك المناخات في متغيراتها فهي تبث ذلك القلق المتغير بسبب تغير المكان وثقافته واحساسه .
هؤلاء يحسسك عالم جلال علوان انه يلتصق بتلك اليوميات الاولى للمكان الجديد ومتى استقلت حياته وتفر المرسم والمحترف والورشة المستقلة ،اتى جلال علوان الينا برؤيته الجديدة ونحن نعيش معها مناظرات جمالية لحالات انسانية وطبيعية واخرى تهم متغيرات عولمتنا الجديدة .
لتتعدد معها عناوين فلسفة رويته وتغير اشكالها ومنابعها ومدارسها كتشكيل بالزيت او فديو مرئي ومتحرك او فوتوغراف او منحوتات وفي كل هذا ثمة مسمى وزاوية تركن اليه الاعمال وقد تفترق عند مكونتها وانتماءاتها الفكرية والفنية والروحية والجمالية ولكنها تلتقي عند ذاكرة وريشة واحدة هي ذاكرة وريشة رسم جلال علوان التي يحاول فيها ان يُرينا حياة اخرى لعالم من الفنتازيا والواقع والرسالة الوطنية ضد الظلم والاهاب ورؤى اخرى تتحدث فيها احلام هذا الفنان بشكل واضح وجدي يمتاز بجمالية ورؤى حسية ومنظورة تعيدنا دوما الى امكنة نشتاق اليها ونحن كثيرا كتلك التي حملة صورة لاهتزاز مقعد صعود النخل الذي يسمى شعبيا او ريفيا ( الفِروَد ) والذي يستخدمه الفلاح لقطف التمر من اعلى النخلة.
انها لوحة لحميمية الفضاء المفتوح على الذكرى وبساتين الطفولة واحلامنا الاولى ،وكأنه ( جلال علوان ) يلتقي ما اراد العالم الجمالي غاستون باشلار ان ما يبثه لنا بأن الفن هو الزمن الذي نلون به احاسيسنا وافكارنا وما نتمناه.ومع غاستون باشلار نقف على وعي اللوحة وفكرتها عند جلال علوان فنجده ايحاءات وايماءات تذهب بنا الى قراءة تحولات الرجل في فلسفته الحياتية والفنية ، وكأنه يجاري الزمن في متغيراته ،وحتما تأخذ العولمة الجديدة من عالم علوان الكثير وتحدد لنا شغفا بنيويا وحسيا وايدلوجيا في قراءته البصرية والجمالية للعالم الذي ينظر الى جزئياته ليحولها الى الكل الذي يدعى جلال علوان .
يسافر مع الروح في قلقها الذاتي وقلقها المهاجر وقلقها الكوني ومن تلك الثلاثية يصنع لنا مثلث فيثاغورس اخرى يحمل جهة للتأمل في احساسه الرومانسي او في صرخة الاحتجاجات أو عندما يقربنا من الشيء الخفي في واحدة من زوايا المنزل او الروح وهي تحمل قلقها الازلي منذ ايام جلجامش والى اليوم او حقيبة الهجرة .
وهكذا يستجد مع الرؤية الاخرى فهما مغايرا لعالم جلال علوان ،وتشعر ان رؤية النقد لأعماله التي كانت تقوم على ثيمات جمالية تحمل عنوانها الثقافي والفني والفلسفي بشيء من فهم واسع لطبيعة عمله واهدافه التي يتخيل انها رسالته في الحياة وعليه ان نؤديها بأمان مع التجدد اليومي بالمنتج الذي يخرجه لنا الفنان من خلال ما تشعره اطياف رؤيته عندما يغمض عينيه او يضع رأسه على الوسادة او يكون في محترفه .
وقد حددت هذه الرؤى والمثابات من قبل النقد بتلك الرؤى التي تقول ان عالم جلال علوان يقوم على :"البقرات"، "مشروع الأثاث"، "الفتومونتاج"، "الفيديو آرت"، "مشروع العباءة" و "المهاجرون".
واعتقد ان كل عنوانا من هذه العناوين يحتاج الى تحليلا لطروحات فنية مستقبله تحول ان ترينا المشهد البانورامي الى كل اعمال جلال علوان وهو يسجل في رؤيته الملهمة تفاصيل عالم تستدفئ فيه الخواطر وتتعالى فيه صيحات الاحتجاج وتهدئ اليه حميميه الطبيعة ومشاعر حب .
عالم من اشيائنا وقوالب الثلج وما لم ننتبه اليه يجيء به جلال علوان الينا في تعبير وصورا فنية تسكنها دهشة الروح عندما تريد ان تكون موهوبة ومبدعة .