كتب : د. جبار خماط
دائماً أقول إن إبداعية فن الممثل هو في ردة الفعل، كلما زادت غرابته وعدم توقعه، كلما تحقق لدى الجمهور دهشةً وتفعيلاً عاطفياً يتماهى ويتصل عضويا مع أداء الممثل، وردة الفعل قد تعاكس الفعل أحياناً أو قد تتطابق معه، بحسب قدرة الممثل على انتاج الأداء الذي يمر بأربع مراحل : الذاكرة.. التركيز ..الانتباه ..الخيال ..
عناصر ذهنية أساسية تعمل بطاقة انتاجية قصوى، الى درجة تدفع المتلقي، إلى عدم الاكتفاء من الطاقة الجمالية للمشهد، وكأنه يقول : هل من مزيد ؟ مازلت لم أشبع عاطفياً من كمية الشحنات النفسية التي يبثها المرسل/ المؤدي نحو الآخر/ المتلقي، برسالة الأداء / صنع التصديق.
مقدمة لابد منها ونحن نراقب مديات التعاطف والتفاعل الشاهقة لدى الجمهور وهو يتابع (العشرة) إخراج علي حديد،أو يوميات شهداء الوطن، إذ لكل حلقة شهيدها، قصته، في وعي امرأة تارة تكون أختاً أو حبيبة أو زوجة أو امرأة تريد منقذاً، في زمن الحرب والغصب القاسي للحياة المستقرة الآمنة.
شعرية الصورة وكثافة البؤرة الشعورية في الصوت، مع جواء تعبيرية خلقتها الصورة المشهدية التي أوجدتها اللقطات وهي تتراوح ما بين الظل والضوء، تتوسطها شخصيتان، كأنهما في بيئة أخرى، تعيشان روحياً، أكثر من الامتداد الفيزيائي الأفقي في حدود المكان.
نعيش مع الشخصيات حباً مكتوماً ومكلوماً في آن معاً، إذ قصص الحب العظيمة لا تكتمل أدوارها لأن ثمة طارئ مأساوي، يعزل بين العاشقين، لا يمكن اختراق جداره، ونقصد به الموت " ذلك القطر المجهول الذي يعود منه مسافر" مثلما تقول (كينونة هاملت ،شكسبير).
كثيراً ما أسمع في سرديات الناس اليومية، ذلك القص الأدائي ليوميات الشهادة التي يعرفها أغلب العراقيين، إذ نجد في الدقيقة (4.35)
المرأة : وين انضربت ؟
الرجل / الشهيد : بگلبي
هنا تأتي ردة الفعل التي تكسر أفق التوقع لدى الجمهور، في نفس الوقت لها القدرة على تجميع حزنها في فعل الحزن الشديد لدى كل الفاقدات من الأمهات والزوجات والأخوات.
المرأة : يمة بگلبه !
وبتكرار يحقق متوالية الألم المزمن اليومي !
وما يترك لدى الرجال من العجز أمام آلة الموت التي لا يعرف الانسان كيفية لإيقافها حين يأتي الأجل !
تمكنت (آلاء حسين) باستعمال تقنية الصوت المكتوم، من القدرة على رجع الصدى لدى الجمهور، اندلاع الصرخات العالية والنحيب المدوي، حين نستقبل شهداءنا !
هذا الأداء يتطلب تركيزاً عالياً في التعامل مع طبقة الصوت، وانفعالات الوجه وتعبيره ومساحات الصمت، أتقنت ( آلاء) صنعها بدراية العارف الخبير بأسرار الأداء التمثيلي، يقابلها (خليل فاضل خليل) الذي كان الأداء لديه مزيجاً من السرد والفعل في آن معا، وهي معادلة صعبة نجح (خليل) في التخلص من قيودها، لأنها قد تؤدي به الى الرتابة، لكنه نجح بمعادلة الاسترخاء في تعبير الوجه والصوت، مما خلق تناغماً إيقاعياً في الأداء الذي كان مكتوماً بطبقة أقرب للهمس وكأنه قادم من عالم لا نعرفه ! الأداء لكلا الشخصيتين (آلاء) و (خليل) يتطور بحساب دقيق يحسب للمخرج (علي حديد) مراقبته وضبط متوالية تطوره في بنية المشهد داخل اللقطة وحجمها القريب من اللقطة والمتوسطة، اللافت هو التعمد في خلق الحاجز ما بين الواقع / بيت المرأة ، والافتراض / الرجل الشهيد ، وكأن بينهما برزخ لا يبغيان !
أغبط الكاتب الدرامي (مصطفى الركابي) حدسه الفريد، من التقاطه يوميات الشهداء المتناثرة في خبرات الناس، وجمعها بتقنية السرد المضمر/ الشهيد، والسرد الأدائي المعلن/ المرأة وتعبير الفقد والوجع، وهي تقنية أقرب الى تيار الوعي في الرواية التي أبدع فيها (جيمس جويس)، إذ نجد ثلاثة أزمنة تتحرك في بنية اللقطات المكونة للمشهدية، كلها تدور في لاشعور المرأة، الذي يتحول الى سردية كلامية / حاضر، تستدعي شخوصاً/ الشهيد من عالم الغياب / المستقبل، في كثافة ايقاعية مدروسة باحكام نجح في انتاجها الكاتب الفطن.