عاصم فرمان
إن التحول في الفنون الحداثية والمعاصرة وما يتصل بها، قد منحَ الفنان زياد جاسم حافزاً مهماً، وأسهمَ في تنوعِ تجاربه الفنية، وإثرائها، لاسيما تجربته في معرضه الأخير (قاع النهر).لقد سعى الفنان – الباحث ـ زياد جسام إلى ترسيخ تجربته الفنية بتنوعات واعية لحقلين مهمين في بنية الإنتاج الفني وهما:
الحقل الشكلي والحقل الدلالي. وقد حفرَ عميقاً في تجاربه الأخيرة باستعاراته المتنوعة، وتقنياته الجديدة، ولعل أهمها تجربة (الكتاب2021) و(الأريكة 2016) ومعرض (إعادة تدوير 2016) في برج بابل. حاولَ زياد جسام في الحقل الدلالي للفن المفاهيمي مع اهتمامه بالحقل الشكلي للفن التركيبي، أي أنه حاولَ تكريس نفسه في تقديم رؤية جديدة للواقعِ، وقد أخضع الواقعَ للتفسير والتأويل، وإعادة البناء، وفي ضوءِ قناعات الفنان الذاتية وميوله، ويقصد إلى صيرورة الواقع مجالاً رئيساً في المقابلة الجمالية بعد أنْ تداعت الحواجز، واقتربت المسافة، بينَ الفنِ وراهن الحياةِ، وتحرر الفنانُ من الوسائل كلها؛ متوجهاً نحو اكتشاف نفسه والعالَم، وكانَ التحرر، بالدرجة الأساس، مِن الأشكال التقليدية في الفن؛ قاصداً إلى التعبير عن رؤيا جديدة للعالم، ومفهوم جديد للفن.
يسوغ ما مرّ، زياد جسام يُعنى بنقل منظومة من الأفكار، أو الرسائل، إلى المتلقي؛ متحرراً من كل القيود الاجتماعية والسياسية والعقائدية، كما أشار غيرُ واحدٍ إلى تجربته في المعرض، إضافةً إلى تحرره من المحددات الثقافية السائدة، ولا يعدمُ عنده هاجس التجاوز لمفهوم الفنون التطبيقية بأبعادها الوظيفية والنفعية. ويتضح الأمرُ في الوسائل والتقنيات والمفردات التي استخدمها الفنان زياد جسام وهي تشي بهذه المزاوجة ما بين الحقلين، وتؤكد نجاحها.
وأعني، هنا، بمفهوم التقنية، العقل الاجتماعي الذي يحكم مجتمعا ما، ويمكن تغييره في بناء نفسه، ويكون، هنا، العقل عقلاً تقنياً يمكن أن يصبح تحرراً في تحديد مسيرته التقنية؛ لذلك وظف الفكرَ للنهوض بتحديد وتنظيم واستحداث تقنيات جديدة تمنحهُ حرية واسعة، بالتعامل مع الخامات المختلفة؛ متجاوزاً بذلك كل الحواجز المعرقلة. وقد نسج الفنان، تجريبياً، عملية التعبير الفني في مركبات ما بين خبرته وفرادته المميزة، وكان في ضوء الاستخدام والتوظيف والوسائط وتنوع المادة؛ ليفتح آفاقاً جديدة من تراكم الخبرة والتنقيب والاكتشاف؛ متجاوزاً المألوف نحو اللامألوف في نصوصه البصرية، وهو ما اشتغل عليه الفنان زياد جسام في تجاربه الجديدة والمتجددة، والمنتظمة جمالياً، باستحداث أفكاره وتجسيدها من خلال استخدام تقنياته المقصودة عن مدى التوافق بين الإمكانيات التقنية والتعبيرية لنصوصه البصرية، وإشهار أفكاره التي يسعى لتحقيقها حسب قراره الحر، وفي نوع جديد،
وقد جاء معرض (قاع النهر 2023) بهذه التنويعات التقنية، وكانَ الفنان متفرداً في تجاربه وفق هذه الرؤية الأسلوبية وغاياتها الجمالية ـ التعبيرية، وبإدراك واضح للأُسس والمقومات الفنية للبناء الفني: (المادة، الطريقة، الأداء، المهارة). لقد أثارَ عنوان المعرض (قاع النهر) انتباه المتابعين والمعنين، وحظي بعناية تأملهم بقدْر انشغال الفنان نفسه بالتأمل، ولساعات طويلة، على ضفاف النهر، قبل الشروع بتنفيذ التجربة، ونجد هذه التأملات، لاحقاً، (متفلسفة) في الاختيارات، كما أحالَ العنوان، أيضاً، إلى أهميتها؛ إذ يمثل العنوان لأي ظاهرة إبداعية سواء أكانت أدباً، أم فناً، العتبة الأولى لقراءة النص، والكشف، وحافزاً للاستجابة، وتحريضاً لوعي التلقي بالإغراء في مواصلة القراءة والمتابعة البصرية؛ لذا عدّ العنوان إشهاراً، حاملاً الإثارة، مشحوناً بدلالات محفزة، إضافةً إلى وظائفه الأخرى، لاسيما في الفنون التشكيلية؛ إذ يبدو الأمرُ أكثر تعقيداً حين يتصلُ بفنون ما بعد الحداثة والفنون المعاصرة، وبالأخص التجريدية منها؛ إذ يلعب العنوان دوراً كبيراً في توجيه القراءة والتلقي، وبغيابه يلتبس الفهم، بل تنحدر الاستجابة في متاهات التأويل غير الفاعل.
إذن، هو اختيار النهر النابض فينا، وليس أي نهرٍ، إنه دجلة شريان العراق الذي يشارك المدينة الخالدة (بغداد) في ذاكرتها، وما تحمله من أسرارنا، وأفراحنا، ومسراتنا، وأحداثٍ، وذكريات، وأحلامٍ، ودماء، وأحبار، وكلمات، وشهداء يصعب حصرهم تاريخياً، بدءا مِن صلب الحلاج، وغزو هولاكو، وصولاً إلى الزلزال، أي الاحتلال الأمريكي عام 2003. وهذا ما يؤكده زياد جسام بقوله: «بفعل الحروب والمحن التي مرّ بها العراق منذ أيام المغول إلى عصرنا هذا..
أثارتني هذه القصص وحاولت بهذا المعرض أن أحولها إلى مجسمات توثق بعض ما سمعناه عن تلك الأيام»، لذلك كل مجسمٍ من مجسمات المعرض المطمورة في قاع النهر يحمل بلاغةً ذات دلالةٍ ترميزية، كـ(الكتب، الطابعة، القارب، البوق، الحقائب، الشمعدان، والساعات). وهي أيقونات مشفرة قد ترسبت، وتأكسدت في قاعٍ، حتى صارت لوناً أخضرَ معتقاً، يبعثها زياد جسام فينا لتكونَ مدارَ تأملٍ وإثارةٍ، وتحرضُ على قراءات مفتوحة خارج محددات الزمن.