ترتبط النظرية النقدية في علم الاجتماع بأعمال مدرسة فرانكفورت؛ خصوصاً أولئكَ الذين قرروا الإفصاح عن نقطة ضعف الماركسية حسب رأيهم، ألا وهي ميلها الحاد نحو الحتمية الاقتصادية؛ ومن بين هؤلاء العلماء الذين ركزوا على دور الثقافة في التغير الاجتماعي هم كل من تيودور أودورنو، وماكس هوركهايمر، صاحبي نظرية تصنيع الثقافة، وروبرت ماركيوزة صاحب مقاربة الإنسان ذو البعد الواحد..
ولقد اتفق هؤلاء جميعاً على أن المجتمع الرأسمالي المعاصر تقوم الثقافة ( المصنعة، ذات الوجه الواحد) فيه على إبقاء الجماهير تدور في دوامة ليسَ لها قرار، من خلال ما تنشره من ثقافة خادعة تُسهم في تزييف الوعي العام لدى الناس.
وتنجح المؤسسات المسؤولة عن تصنيع الثقافة في إخضاع الجماهير لها من خلال نشر مجموعة جاهزة من الأفكار التي يصبح الناس بمرور الوقت مهووسين بها، وبما تقدمه لهم من توافه الأمور،وأحاديث النميمة،والموضة،والبدع الجديدة.
إن صناعة الثقافة هي المسؤولة عن إنتاج، وترسيخ وعي زائف لدى الجماهير بل وتخديرها ،الأمر الذي يؤدي بالناس إلى الانصراف عن القضايا الحقيقية،والانهماك بقضايا تافهة لا تستحق ما يتم إنفاقه عليها من جهد ووقت ومال وتفكير واهتمام..
وتطمئن السلطات السياسية، والاقتصادية إلى ديمومة الوضع العام بعد أن تتأكد من أن الجماهير قد تقبلت تلكَ الأفكار، بل وتشربت بها، وصارت تدافع عنها بدلاً من أن تدافع عن حقوقها أمام تلك السلطات..
قد ينخدع الناس أكثر إذا ما ظنوا أن السلطة هي مجرد الحكومة التي تدير أمور الدولة في البلد؛ ثم يتسائلون وما دخل تلك السلطة في إنتاج مسلسلات يتم بثها في أماسي رمضان؟
وفي الحقيقة فأن السلطة تشتمل هنا على كافة المؤسسات التي تشترك مصالحها في قواسم مشتركة، وتتقاطع مع وعي الجماهير، لأن هذا الوعي يكشف مثالب السلطة وعيوبها؛ تلك العيوب التي تحرص هي على تغطيتها من خلال إثارة قضايا ليست لها علاقة بالواقع المُعاش للناس..
وعلى سبيل المثال فقد رأينا قبل مدة قصيرة كيف كانَ لمسلسل تلفزيوني كان من المقرر بثه في رمضان من على قناة تملكها السعودية أن يتسبب في أزمة كبيرة، لو لا تراجع القناة عن بث هذا المسلسل بعد أن هددت جهات من جانب آخر ببث مسلسل يجرح مشاعر الناس لدى هذه الجهة أو تلك. لكننا وقبل رمضان بأيام عدة رأينا كيف تغيرت بوصلة الأحداث بشكل لم يتوقعه أكثر المتفائلين؛ عندما تمت المصالحة بين إيران والسعودية برعاية صينية، لتنسى الناس ما كان قد شغل تفكيرها بهذا المسلسل المثير للجدل قبل أيام فقط..
ولقد قرأت اليوم عبر الفيسبوك منشورات حول مسلسل كويتي تنال أحداثه من العراق عبر وضع طالبة عراقية (في السيناريو) تدرس في لندن بمنزلة خدمة لدى طالبات من الكويت، كما تم إنتاج مسلسلات كويتية خلال الأعوام الماضية تحاول أن تنال من الشخصية العراقية، وإذا كان يمكن تبرير هذا الأمر بأنه رد فعل من مجتمع ودولة تعرضا للغزو وعدم الاعتراف بكيانهما لمدة طويلة، فبماذا يمكن تبرير مسلسل كويتي آخر تم عرضه في العام الماضي أثار جدلاً في مصر من خلال إظهار إحدى الشخصيات في دور الراقصة والسارقة وكأن المجتمع الكويتي خال من أية مشكلات تظهر لدى المجتمعات الأخرى..
إن اندماج المشاهدين مع أحداث مسلسلات تلفزيونية، وأفلام سينمائية إلى حد التماهي والتبني يشير إلى حالة من الجهل العام، وانخفاض مستوى الوعي الحقيقي الذي يمكن من خلاله أن يُدرك الناس ما يُهدد وجودهم في الصميم مثل أزمة المياه، أو ظاهرة تعاطي المخدرات بين الشباب، أو الفساد المالي والإداري الذي يستشري بين مفاصل الدولة والمجتمع...