كتب : رياض عبد الكريم
منتصف ثمانينات القرن الماضي، انتقلت للعمل في دار آفاق عربية كمدير فني للمجلة، وكان في القسم الفني شاب نشط متواضع بوجه مبتسم يعمل خطاطاً ، سمرة وجههه ولهجته الجنوبية دفعتني لسؤاله عن محافظته، أجابني من الناصرية، ولم يقل ذي قار، عرفت حينها أنه من أصول متوغلة في تأريخ المدينة، ثم عرفت الأكثر من د. محسن الموسوي رئيس التحرير أن عائلته من ناحية النصر الغازية سابقا وهي الناحية التي كان لجدي الدور الأكبر في تأسيسها ونشأتها، كان فلاح إما متخرجأً حديثاً من أكاديمية الفنون الجميلة أو في المرحلة المنتهية، حين بدأت العمل أسست قسماً فنياً كبيراً واستقطبت عناصر عدة وجهزته بمستلزمات التصميم مستفيداً من موجوداته السابقة، ومن خلال استجابات فلاح لطلباتي ومواصلته في تنفيذ مهمات العمل بروح إيجابية وبكل ود وترحاب، شعرت وتأكدت أن هذا الشاب جدير بالاهتمام ولمست جديته في تطوير قدراته ورغبته في اكتساب المزيد من المعرفة وتنمية امكانياته الفنية، ولأني أحب هذه الصفات واحترامها، منحته الكثير من الفرص، واقتربت منه أكثر حتى جعلته مساعدي في العمل، كان مبدعاً ودقيقاً في كل مدارس الخط العرب ، ولديه بدايات في التصميم تحمل الكثير من الأفكار الجيدة، لكنها بحاجة الى الصقل والإضافات، ولحبه لهذا العمل كان مستجيباً جيداً متواضعاً في تقبل الملاحظات وحالما في أن يكون.
كنت غالباً ما أصطحبه الى المطبعة لكي أجعله يعرف سر العلاقة بين التصميم والطباعة، ثم صرت أكلفه بتصميم بعض الصفحات من المجلة وأنا قريب منه ولم ألحظ ارتباكه أو تردده في اختيار شكل التصميم، وغالبا ماكان يحقق المطلوب، إلى أن انتقلت معه الى مرحلة أهم وأكثر صعوبة، وهي تكليفه بتصميم ملف الصفحات الأخيرة من المجلة وعنوانه أضواء ويقع في 32 صفحة، لأقل أنه تمكن من انجازه وفق تصوري في البداية، لكنه تمكن منه في النهاية .
فلاح كان شاباً طموحاً وقرأت في طموحه آفاقاً لمستقبل زاهر، لايكل ولايرفض لكنه يقترح، وغالباً ماتصيب مقترحاته، أحببت فيه تواضعه وبساطته وبشاشة وجهه، ولهجته الجنوبية، واحتويت طموحه مقدراً أفكاره ومتفاعلاً مع رغباته وتمنياته، واقتحم فلاح عالم التصميم مستفيداً من قدرته البارعة في الخط.
انقطعنا عن التواصل فترة بعد تقاعدي من الدائرة أوائل التسعينات ، وانصرافي لأعمالي الخاصة، وكنت أتابع مسيرة فلاح ونتصل بين فترة وأخرى هاتفياً، وحين علمت من أن فلاحاً قد أكمل دراسته العليا وحصل على شهادة الدكتوراه في مجال تخصصه فرحت كثيراً متذكراً بدايته التي احتوتها التمنيات.
حين اتصلت به مهنئا بحصوله على الدكتوراه قال : لولا فضلك المبدع ووقوفك معي بصفتك المعلم وأنا التلميذ لما حصلت على شهادتي على الإطلاق، وظل يردد هذه العبارة لحد اليوم، أمامي وأمام الآخرين، بالرغم من أنه الآن يعد أفضل مصمم مثقف في العراق، ميزته أنه سخر تجربته العملية لتحريك الكومبيوتر لا كما يفعل معظم الاخرين من الخضوع لأفكار الكومبيوتر وتطبيقها في التصميم. .بوركت أخي د. فلاح تستحق الثناء وأقدر وأحترم وفاءك في زمن ضاعت فيه القيم والأخلاق بل وحتى الأعراف.
*اللوحة من أعمال د فلاح عملها خصيصاً لي وهي تحمل أسماء عائلتي واعتزازاً بها فقد وضعتها في غلاف كتابي الذي صدر مؤخراً، وفوجئت عندما اتصل بي صديق في عمان يخبرني بأن فلاح قد بعث لك لوحة، حين فتحت المغلف وجدت أنها ذات اللوحة التي رسمها سابقا لكن بمساحة أكبر، حين علقتها في البيت قلت مع نفسي لست فرحاً بها فحسب وإنما أفرحتني قيمة الوفاء التي أنتجت هذه اللوحة.