09 May
09May

 نعيم عبد مهلهل

يشغل الورد مساحات لاتحصى ، ويزهر في الربيع ، ولكنه يتواجد على ازمنة كل الفصول ، وتظهر واضحة حاجة البشر اليه ليحسنوا من تفاصيل ملامحهم وأظهار الود وحسن الاستقبال ، ومرات يتم ذكر الورد في رسائل الغرام والروايات وقصائد الشعر  .

 وحتى في الألواح والنقوش على ابواب المعابد والمسلات وكوؤس النذر كان الورد من بعض حسن الطالع والرغبة في ديمومة الحياة .ولا اعرف كم من لوحات الرسم من حملت صورة وردة يغطيها احساس الرسام من خلال تقنية رسم اللوحة ونوعها ولونها ،ولكنها من دون عطر ، إنها ( أي اللوحة ) بهجة للنظر فقط .لكن في مرات عندما تصادفكَ جدران محطات قدر ما ، وتجد لوحات يسكن في ذاكرتها الورد ، قد تفاجيء أن ورد هذه اللوحات يحمل عطرا بخصوصية كل وردة ، وهناك ورودا برية من دون عطر ولكنها تحتوي جمالا خفي ليكون بديلا عن هذا العطر...

وما اقصده في هاجس العطر واللوحة والجدار والوردة هو ما اراه في المجموعة الفنية للفنانة اللبنانية لمياء غرز الدين مكارم .عالم من الحس الشعري المطعم بدهشة فضاءات بدايات التجربة التي تقترب لتكون تجربة شعرية ــ تشكيلية .

 وأظن أن تجربة الورد في بدايات موهبة لمياء غرز الدين يرتبط بهواية روحية خالصة وخاصة ، التقت بهاجس الحب والتمتع بحمل الورد وشمه والنظر إليه ، ومع تلك الموهبة تتطور ملكة الرسم عند لمياء لتشغل تجربتها الابداعية الأولى بخيارات أن ترسم الورد على الجدران ، ولكن في كل رسمة تشعر أن لمياء بعيدا عن تكتنيك اللوحة وتلوينها تضع عنوانا لحالة شعرية ونفسية تجعل من ينظر الى اللوحة (لمياء ) يكتشف الأثر الطفولي في بدء احلامها مع الحياة على شكل وردة تمتد في ازمنة الريشة لتكون محطة لتفاصيل يوميات تلك الطقوس الحماسية التي جعلتها تميل لتسجل ذاكرة العطر على الجدار وتحوله من حجر الى حياة تتنفس الاماني والصمت المتأمل ولحظة مراجعة ما كان ويكون ، ليصبح الورد نافذة للبدء والتأمل والذهاب مع الحياة الى مراحل اخرى في مستقبل ستعتني فيه بتجارب جديدة .

نظرت وتأملت بهدوء وقراءة لعشر لوحات من لوحات الفنانة لمياء غرز الدين ويجذبني في تلك التأملات بالرغم من أن هاجس موضوعة اللوحات واحد ، إلا أن كل لوحة هي كما ترويها ريشة الفنانة حكاية لوردة ما ، وهذه الوردة تربط بذكرياتها وبدايات احساسها بأن الأشياء تتطور اولا عندما تكون خواطرها الورد .

 لتشعر أن فيها شيئا من طفولتها واحلام صباحها واللحظات التي كانت تتأمل فيها ملامحها في المرايا وتتخيل أن الوردة التي رسمتها على الجدران هي وردة في حديقة الروح التي تعكسها ريشتها وموهبتها ورغبتها لتجعل الورد حافزا للمشي والسير بثبات في شوارع تلك المرايا .

أزهار على الجدران ،هي الحاة على الجدران ، فقه من لحظة الانسجام بين العاطفة الانسانية والحائط الذي سنعلق عليه لوحاتنا والصور ، ومع تلك المشاعر التي تصنعها الالفة بين الوردة والجدار ، وبين المزهرية والصورة المعلقة تظهر كوامن الحس البعيد الذي يجعل اللوحة مشدودة الى زمن بعيد ، ربما طفولة أو صبا أو مشاعر حب قديم كان يتجدد مع جعل الورد قريبا من النوافذ والجدران والأيحاء وتفاسير حالتنا في مراحل اليوم في الدراسة أو العمل او ساعات النزهة ، وتجميل لأمكنة ربما ترتبط بأثر لبيت قديم هو الآن متحف في ذاكرة الفنانة لمياء غرز الدين وتأتي به تلك التفاصيل الانيقة لموضوعة الورد عندما يكون متنائرا في مرايا عيون المشاهد كمربع بتلوين لحمرة شاحبة او زرقة تحمل عباءات الأيام على اكتافنا وهي تتحول في رغبة منا الى حياة ينعشها الورد على جدران الأمل ، وكأن غرز الدين تكتب اغنيتها بتقنية الدهشة والريشة التي تعبر فيها عن بوح خاص وتفاصيل على قلتها لكنها جميلة لاستخدامها الريشة في جعل الورد متحركا في تأملاتنا ويكتب خواطره عبر لحظات هدوئها تعيشها الرسامة وتقرر فيها ان تكون تلك المزهريات وزهورها هي فقط من تجعل الجدران تعيش حياة تتحرك فيها اثاث غرفة النوم والصالون والمطبخ ، وهذا الذي تستطيع ان تشمه في اللوحات التي جلس الورد عند هاجسها يكون دافع لمعرفة مساحات البوح وجمالياتها في تلك الخيارات الهادئة في بناء اللوحة وموضوعتها ، لتقول لنا الفنانة من خلاله :

انه بعض حاجات المكان لنتجانس ومعه ،والزمان ليأخذنا بنا الى رؤى جديدة نعيش فيها تحولات التجربة وتبدلاتها ، ولكن يبقى الورد من بعض مواسم الحماس والفرح عند تلك الموهبة اللبنانية الجميلة وهي توقد من العطر نورا وتجعل المزهريات وصور الذكرى تنادم الجدران وتتحدث معها وكأنها تعيد صدى كلمات الفنان الفرنسي كلود مونيه :عندما ترسم الطبيعة عليك أن لاتنسى أن الورد هو الملك .

 وأضيف عليه أنا، وأنها  اكثر الأشياء رومانسية ، بعد لحظات تخيلنا مشهد نزول حواء على الأرض بصحبة آدم.

هذا الملك الرومانسي ( الورد ) تعتني فيه كثيرا الفنانة لمياء كرز الدين ومرورا باللوحات واحدة واحدة يبقى تكنيك البنية واحدا كمنظر طبيعي لمكان على جدار ،فهي لم تختار حديقة لترسم وردوها فيها بل هي حولت الجدار الى حديقة وتلك مهمة لاتحتاج الى رسام فقط بل يتبغي أن يكون هذا الرسام شاعرا ايضا ، وهو ما فعلته السيدة لمياء غرز الدين مكارم ، وقد ارتنا اطيافا مرئية وبطيف لوني له احساس متقارب كصورة من دهشة احلامها الاولى والحكاية التي لم ترويها كما روتها لنا شهرزاد شفاهيا ،بل جعلتها لونا نستعيد معه فضاءات بعيدة لعالم كانت جدرانها تذكرنا باحلامنا الرومانسية وطموحاتنا الاولى.

الورد في الاعمال الفنية المختارة من نتاج الفنانة لمياء غرز الدين هو هاجس جميل لتحويل يباب الحجر ( الحائط ) الى متحرك روحي يجعل الحدائق معلقة عند اطراف جفن العالم ،وتؤدي فيه الفنانة دور الوسيط  الذ يصنع الحركة والحالة الجديدة .يقول المثل الياباني : لاتضرب المرأة حتى لو بوردة .  

وأظن سبب قول اليابانيون لهذا المثل ، سببه انه لايجوز الاقدام على فعل محرم كهذا ، لأن المرأة صنعتها الآلهة اولا .لمياء غرز الدين تضرب الجدار بوردة وبصور الذكريات وبآنية خزف صيفي لتشعرني إن هذا يجوز لنحرك في الساكن الحياة ونمحها ديناميكة تحرك فينا مشاعر استعادة اشياء مفقودة في ايامنا ويستطيع الورد أن يستعيدها .ولوحات لمياء غرز الدين مكارم قد نجحت لتكون محفزا وجمالا حتى وهي تضرب الجدار بوردة وترينا نمطاً حسياً وجمالياً يدفعنا لنبتسم ونشم العطر ايضا.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن