كتب : عبد العليم البناء
مازالت شجرة الإبداع العراقي تفقد المزيد من أغصانها الذهبية المثمرة داخل وخارج العراق، وآخرها المخرج المبدع عامر علوان الذي غادرنا الى الرفيق الأعلى في الرابع من تموز يوليو2023، ليفارق الحياة التي كانت تضج بإبداعاته السينمائية المتنوعة، في مستشفى بمدينة باريس عاصمة فرنسا وهو يعاني من مرض لم يمهله كثيراً، وعيناه ترنوان الى مدينة الحلة في محافظة بابل التي رأى النورفيها عام 1957وترعرع على أديمها، وهو يعلم ويعرف جيداً ما تكتنزه من إرث حضاري عراقي كبير أبهر العالم كله، وكان يحلم بتقديم المزيد من عطاءات وابدعات أبنائه بشتى وسائل الابداع.
منذ يفاعته عشق الفنون ومن بينها السينما والمسرح يوم كان يشارك بالفعاليات والأنشطة المدرسية، وحين يرتاد دور العرض السينمائي في مدينة الحلة الفيحاء، التي كانت ملاذاً أيضاً لمعظم أبناء محافظات الفرات الأوسط لاسيما أيام العطل الاسبوعية والأعياد والمناسبات المتنوعة.
لم تكن مسيرة الراحل عامر علوان الإبداعية سهلة، إذ تبلورت بالدراسة الأكاديمية في معهد الفنون الجميلة في بغداد الذي حصل منه على الدبلوم عام 1979، فعمل في تلفزيون بغداد ليتلمس طريقه العملي مع خيرة العاملين فيه، ممثلاً في المسرح والدراما التلفزيونية، وفي عام 1980 غادر العراق الى فرنسا لصقل مواهبه وإكمال دراسته الجامعية في السينما، فحصل على الدبلوم العالي والماجستير والدكتوراه في السينما من جامعة السوربون رقم واحد في باريس، وكذلك درس في معهد دينا التقني السينمائي, وعمل في مسرح الأوبرا لتتطور خبراته الفنية، وكلها أهلته الى دخول عالم السينما في فرنسا من أوسع أبوابها، فكتب وأخرج عدداً من الأفلام القصيرة والوثائقية مثل: (الإنتقام) ، (أطفال الحصار)، (مندائيو العراق)، (الضفاف)، (كركوك القلعة المنسية)، (الحضر مدينة الآلهه)، وعمل في قناة ARTE الفرنسية التي كلفته بإدارة الإنتاج في الفيلم الروائي الطويل (المغني) الذي كتب قصته وأخرجه الفنان القدير قاسم حول، ثم شاءت الظروف في هذا الفيلم الذي تم تصويره في أحد القصور الرئاسية في مدينة البصرة، أن يقوم عامر علوان بمهمتي التمثيل وإدارة الإنتاج برغم تأكيده أنه كان يفضل الوقوف خلف الكاميرا وليس أمامها.. فجسد دور (المغني) أمام الديكتاتور بكثير من الاحترافية والمصداقية، لتتجلى مقولة "الفنان يبقى والدكتاتور يسقط" بالصورة المطلوبة، فلاقى الفيلم حينها نجاحاً في بعض المهرجانات العربية ومنها (وهران للفيلم العربي) في الجزائر.
سمحت الدراسة والإقامة في باريس لعامر علوان بالعمل مع مخرجين فرنسيين وبتمثيل بعض الأدوار، ومنها دوره في فيلم (الرجل المحبوب) للمخرج أوندري تيشينه أمام النجمة الجميلة كاترين دينوف التي كان يتابعها ويحب أدوارها، وواصل إنجاز أكثر من فيلم وثائقي ومنها: (العراق بين الواقع والخيال)، و(وداعاً يا بابل)، كما قام باختيار أفضل اللقطات وأرقى المشاهد في مسلسل (سقوط الخلافة العثمانية) للمنتج العراقي الفنان محسن العلي، لتقديمها بشكلها الجديد، كفيلم، في حدود ساعتين مع ترجمتها لتكون في مصاف الأعمال الدرامية العالمية.
وكان الراحل قد كتب وأخرج فيلمه الروائي الطويل (زمان رجل القصب) الذي صوره داخل العراق قبل شهر ونصف الشهر من سقوط نظام صدام حسين واحتلال العراق، واعترض بعض رجال النظام السابق على بعض مشاهده التي صورت في مدينة الكفل بمحافظة بابل، إذ تم تصوير الفيلم على 29 شريطاً، وحجز المسؤولون العراقيون خمسة منها، لكن عامرعلوان استعادها عن طريق شرائها من شخص كان قد استحوذ عليها بعد السقوط، وحصل الفيلم على الكثير من الجوائز في العديد من المهرجانات في مختلف أنحاء العالم، ولعب بطولته الفنان سامي قفطان والفنانة شذى سالم، ويدور حول رجل وزوجته يسكنان في إحدى المناطق النائية، وتصاب الزوجة بمرض غريب يستلزم علاجه بدواء غير متوافر بسبب الحصار، ويظل الزوج في رحلة بحث، وعندما يجد الدواء ويعود به لزوجته يجدها قد فارقت الحياة.
أخرج الراحل الفيلم الروائي الطويل (الحاج نجم البقال) سيناريو الكاتب سلام حربة وانتاج دائرة السينما والمسرح، وتدور أحداثه حول ثورة النجف ضد الاحتلال البريطاني عام 1918، في انعكاس حي في مرآة الزمن لما يدور الآن في العراق، حيث تخلق مقارنة واقعية تستند على حقائق تاريخية بين الاحتلال الأميركي المعاصر والاحتلال البريطاني في الماضي، ولعب أدواره مجموعة من الفنانين العراقيين والأجانب الذين تقدمهم الفنان القدير سامي قفطان.
وكانت لدى الراحل آمال في إنجاز مشاريع سينمائية عدة قبل رحيله المفاجيء وهو لمايزل في قمة عطائه، بينها فيلم (شاعر حافي القدمين) المستوحى من ألف ليلة وليلة في إطار إنتاج فرنسي جزائري ولكن الجانب الفرنسي لم يوف بالتزاماته، وكمن كان يتنبأ بموته أكد "سأحققه يوما ما ...
الموت فقط سيحول دون تصويره"، كما كان يعد لتصويرفيلم (الشيطان الرجيم) في العراق، في وقت كان يعد فيه لفيلم آخر يصور في إسبانيا وهو إنتاج قطري إسباني مصري عن (أبي عبد الله الصغير) آخر ملوك غرناطة ...
رحم الله تعالى المخرج عامر علوان الذي حافظ على عراقيته حين كان يقيم في باريس منذ عقود، ويتساءل " هل تقدر أن تنزع قلب الإنسان من جسده؟ عراقيتي هي التي أعطتني حب الحياة.. النخلة العراقية واللوعة العراقية ..لا يمكن أن أرمي هذا الكنز في شوارع باريس وفاء لأبوي وللعراق كله وحتى أعرف الأوروبي الذي يتبع إعلاماً مسيساً لا يرى في العراق سوى عمليات إرهابية واقتتالاً طائفياً.."
نحلم ونتمنى مع الراحل عامر علوان عندما كان يردد " أتمنى أن توجد حالة وعي مع الزمن وأن تنتهي سرقة ثروات البلد كما إنتهى الديكتاتور."