في حراك سينمائي كبير يتم الآن عرض أفلام مهمة على شاشات السينما في العراق .. دعوة صادقة أن ندعم هذا الحراك والنشاط السينمائي الرائع كما نجد ذلك في فيلم (أناشيد آدم للمخرج عدي رشيد
د. سالم شدهان غبن
حينما تقرّر أن تشاهد فيلماً لسينمائي ذكي مسكون بالسينما والثقافة والتأريخ مثل الفنّان (عدي رشيد) عليك أن تتسلّح بكلّ هذا وأكثر لأنك حتماً ستكون أمام خطاب ذكي يتحمّل تأويلات وتفسيرات وقراءات ليس لها حدود, وهذه سمة حضارية مابعد الحداثوية للسينما التي تصلح أن تكون أقرب الفنون إلى الفلسفة والعلم والتطوّر وهذا سرّ ديمومتها. وفيلم عدي الأخير(أناشيد آدم) ليس فيلماً عاديّاً أبداً, وحكايته ليست حكاية إفتراضية مبنية على إفتراض (عديوي) حول شخصية الطفل آدم الذي يقرّر أن لايغادر سن الثانية عشرة من عمره, يحدث هذا أثناء مشاركته وشقيقه الأصغر (علي) مراسيم غسل جثمان جدّهما.
قرار (آدم) ورغبته التي تتحققّ لم تكن مجرّد فكرة من عدي كي يعالج مرحلة خلود فقط, ولا هي رغبة وقرار فردي فقط, ولا هي حالة تمرّد على مرحلة الشيخوخة والموت فقط, ولا هي رد فعل على إجباره على مشاهدة غسل الجثمان فقط, ولا هي مدّ وتقبّل وإقتباس ولا إستقبال ولا مداورة روحية من شخص انتهت حياته نهاية طبيعية (جد آدم) فقط, بل هي كلّ ذلك وأكثر, أقول أكثر مانحاً الفرصة لعدي وللمتلقّي كي يدلو بدلوه.
وهنا تتوالد مجموعة من الأسئلة التي تركّزت وتجسّدت في أذهاننا من خلال قراءتنا للتأريخ, ومشاهداتنا لتجسد التأريخ وللثقافة السمعبصرية التي تجمّعت فيها أحاديث, بعضها حقائق, وبعضها خرافات وبعضها سحر وحِكَمْ والأمثلة على هذه كثيرة منها ماشاهدناه في فيلم (محمد رسول الله) للمخرج مجيد مجيدي حينما يتمكن الطفل (محمد) من معالجة الحالات المرضية المستعصية, ومعالجة الجوع, وغيرذلك, لكنّه سيكون نبيّاً واليهود يطاردونه كي يتخلّصوا منه قبل أن يهدّد وجودهم كما يظنّون وكما جاء ذكر بعض من ذلك في كتبهم الدينية. وبالتالي نستطيع أن نتقبّل تلك الفكرة ويمكننا أن نذعن بأنها حقيقة فالطفل ولد وهو مؤهل بأن ينزل عليه جبريل (ع) وسيكون نبيّاً.
كذلك قرأنا حكاية إختلف في تفسيرها البعض وهي حكاية (رد الشمس) التي تخص الإمام (ع), وغيرها الكثير من الحكايات والأساطير التي تمتليء بها الميثولوجيا في مختلف الأمكنة.
من هنا يبدأ (آدم) في عصره الجديد وعمره الـ(12) الذي توقّف فيه النمو لكن هنا يأتي إلى الأذهان مجموعة من الأسئلة التي تحتاج إلى أجوبة وتأويلات معرفية وليس إعتباطية خرافية مزاجية، وهذه الأسئلة توالدت لديّ كوني شعرت بأن هذا الفيلم ذكيّ جداً من مرحلة التفكير وولادة الفكرة إلى مرحلة مابعد الإنتاج، وبعض هذه الاسئلة تم طرحها بعد خروجي من قاعة العرض ثم تجدّدت حينما قرّرت أن أكتب عن هذا الفيلم الجميل, والبعض الآخر جاء وقته الآن كي ينطلق للبحث عن إجابة جمالية حبّية وليس عدائيّة أبداً, منها: لماذا فكّر (آدم) أن يتوقف عن النمو في عمر (12) سنة فقط؟ ..هل هي فكرته هو أم إيحاء من الكاتب المفكّر, أو من شخص آخر من أهله أو من أخيه الصغير (علي) أم من (أنكي) ..إلخ.
ثمّ لماذا أنكيدو؟ وأنكيدو هو الذي ساعد كلكامش بقتل الوحش خمبابا والثور السماوي الذي أرسلته الآلهة عشتار ليقضي على كلكامش. وهو خلّ وصاحب لكلكامش , لكن الآلهة قتلته. وذلك الحدث مثّل دافعاً لكلكامش كي يبحث عن الخلود. إذن لماذا أنكيدو؟ سؤال آخر لماذا كانت هذه الأسماء (آدم, أنكيدو, علي), ومالمقصود منها, وكيف تم جمعهم معا في مثلّث عجيب؟ علما أّنها جميعا أسماء خالدة في الذاكرة الجمعية؟ ..
كذلك يأتي إلى الأذهان تساؤل مهمّ هو: كيف توزعت الأدوار والمهام والأبعاد للشخصيّات المسمّاة بهذه الأسماء بصفاتها وسماتها وأدوارها , وكيف كانت حياتهم بسلبياتها وإيجابيتها, ؟
ومثل عدي رشيد ووعيه الكبير لايفوته ذلك أبداً .. ولأنّنا أمام علامات إستفهام كبيرة يجوز لنا أن نسأل سؤالاً آخر هو: لماذا حدّد الفيلم تاريخ جريان الأحداث من 1946 إلى 2014, وهذا السؤال ماكان علينا أن نطرحه لو لم تسبقه تلك الأسئلة التي أراها حتميّة, وقد يراها آخرون أسئلة إستفزازية لكنّها مستقاة من داخل المتن الفيلمي وليس من خارجه على إعتبار أن كل ماموجود على الجانب المرئي للفيلم هو فكر قصدي مائة بالمائة, وهو فكر وبحث علمي يحمل وجهة نظر مبدعه بمضمون وشكل متكاملين, صاغه المؤلّف المخرج كي يضعه أمامنا للمتعة الروحيّة أولاً, أما الأشياء الآخرى فجميعها مكمّلات ومطيّبات وملطّفات وأجزاء من رسائل تمثّل بعضاً من الجدوى.
غير ذلك فإن هذا الفيلم يحمل فكراً سينمائياً ناضجاً جداً, وكل مافيه ينمّ عن نضج حرفي إستغلّال جميع عناصر اللغة السينمائية أجمل استغلال, لمخرج ذكيّ جداً إستطاع أن يوظّف الزمان والمكان وحركات الكاميرا ..إلخ بجمالية ستكون مادّة الجزء الثاني من هذا المقال..