17 Jul
17Jul


 كتب : نعيم عبد مهلهل

قلما نسمع من أهل الأهوار حكايات عن عهود آبائهم وأجدادهم، فهم لا يحتفظون بخفايا حياة قديمة بسبب أن حياتهم واضحة ومن دون الغاز ولا تحتاج إلى حكواتي يفسرها أو روزخون يقصها، وعندما وزعنا كتاب التاريخ ولأول مرة على أول دفعة من تلاميذ مدرستنا وصلوا إلى الخامس الابتدائي. 

دخلت تفاصيل حياة أخرى في حياتهم غير حياة قريتهم.

لقد أذهلهم الكتاب بتفاصيل حياة لأناس لم يتخيلوا في يوم ما أنهم سيعرفونهم، وبسبب كتاب التاريخ الذي صار التلاميذ ينطقون ببعض تفاصيل وقائعه البسيطة أمام آبائهم عند عودتهم إلى بيوتهم أو ساعة يحضرون الواجب المدرسي حيث كان معلم التاريخ في مدرستنا يؤمن بفرضية أنَّ (الدَّرخ) أي الحفظ على القلب وبصوت عال هو الأفضل بالنسبة إلى أبناء المعدان.

تبطرت على التلاميذ المساكين ذات يوم عندما غاب معلم التاريخ، وكان على معلم الجغرافية (أنا) سد الشاغر، ورحت أتحدث لهم عن تفاصيل تاريخ هذا المكان مع الفرس والروم والقرامطة والزنج والأتراك والإنكليز، ويبدو أني نسيت نفسي ورحت أحاضر كما يفعل مدرس في الثانوية أمام طلابه، وكان التلاميذ فاغرين أفواههم لا يفقهون من كلامي شيئاً ولكن بعضهم ظل يجاهد ليجمع صور التواريخ التي أتحدث عنها أمامهم حتى أن النعاس سكن بعضهم حين تاهت في رأسه التفاصيل التي أسردها ويسمعها لأول مرة.

لكن أحد هذه الكلمات وهي (ترك) التي كنت أتحدث فيها عن الترك وأخبرتهم أنه بسبب شجاعة أجدادكم تركوا مراكبهم هنا وانسحبوا إلى ثكناتهم في سوق الشيوخ والناصرية.

ويبدو أن حكاياتي التاريخية قد ترسخت بذاكرة التلميذ (فرطوس) وذهب يخبر أبيه الذي انكسر مشحوفه، ويحتاج إلى قطع خشب وأخبره أن المعلم يقول: غير بعيد عن قريتنا توجد مراكب لناس اسمهم الترك غاطسة في الماء، ويمكنه الذهاب إليها وجلب الخشب.

في اليوم الثاني أتى والد التلميذ وتقدم إليّ ليخبرني كما أخبره به ولده إن كان بإمكاني إخباره بمكان المراكب التركية (الراكسة) في الهور.قلت: أنتم أعلم بها، أنا تحدثت لتلاميذي عن قصص أسمعها، ولم أشاهدها عدا مركب إنكليزي غاطس في نهر (غلوين) القريب من مدينة سوق الشيوخ.

قال شغاتي لوالد التلميذ: ولماذا لم تأتِ لي وأنا أرشدك.قال الرجل: وما أدراني أنك تعرف بمراكب الترك.قال: جدي أعلمني وأنا صبي بمكانها.

من نقاش الرجلين عرفت أن بعض من أهل الأهوار لديهم تفاصيل لتواريخ المكان، وحين أتى شغاتي إلينا في سمر الليل سألته: عن حكايات جده.؟

أخبرني أنه يخشى الحديث عنهم؛ لأن لهم رهبة وقساوة أكثر من الإنكليز ودائماً تكون شواربهم غليظة ويتنصتون إلى كل ما يقال، ويفسرون كل حركة أو تمتمة أو نظرة بأنه عمل عدائي ضدهم حتى شاع بين المعدان ذلك المثل: لا تبك حتى لا يسمعكَ الترك...

الآن الترك بعيدون، والسلطان ذهب وأتاتورك توفي وبوابات سدود مياه دجلة بيد أردوغان، وهو صاحب مزاج غريب، لهذا أتذكّر الآن روح شغاتي الطيب وأكرر مع نفسي مثله:

 لا تبك حتى لا يسمعكَ الترك، ويمنع أردوغان وصول الماء إلى الأهوار..........!

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن