04 Nov
04Nov

نعيم عبد مهلهل 

يرسم محمود شوبير بنمطية تصلح لتعيش في مخيال المشاهد كقصص معبرة عن هاجس حياتي وانساني ، وهو يرسم بخصوصية تحول اللوحة الى نص لوعي وليس الى متعة لبهجة اللون والشكل ، ذلك لأن الفن لديه هو أيصال الهاجس الى مستويات من التفاهم بين الناظر والمنظور وهي ذات اللحظة التي يريد فيها شوبير من متأمل العمل الفني أن يطرح سؤالا ،  واللوحة هي من تجيب وليس كما العادة من رسمها هو من يفسر ويجيب.

 مع عوالم الفنان العراقي محمود شوبير وجدت الاحساس بثنائية مبتكرة في أحساس غريب أان كل لوحة تأتي من عوالم اللحظات التي يؤسمها توقظ في كوامني قصة ما ، وحتى بدون شعور يثير الربط بين لوحته وسرديتي هاجس الالتقاء الخفي .

 أنه يرسم بحرفية تخصه هو وجعل له مصطحلا  ينتمي اليه هو ،وعليه فأن الابتكار في لوحة شوبير هو من يحفز المشاهد ليتخيل امراً يخصه ويتحول هذا الأمر الى ثنائية تتجانس في العلن والخفاء ،وفي كل مرة حين اتأمل تضاريس الرؤيا في لوحاته اعود الى بناء سردية ما تكون هامشا حسيا مع الريشة التي صنعت ذاكرة اللوحة واحداثها .

 في لوحته آدم وحواء ( خيمة اللجوء ) مقتنيات الكويت .. يحاول محمود شوبير أن يجعل اولئك المعجبين برؤاه وغرائبيات وشجاعة الطرح والتقنية وحتى فلسفة الرسم ورؤيتها عنده يحاول ان لايشتت رؤى التفسير وهم يتأملون اللوحه . فآدم لجأ الى الارض قادما من الجنة ،وبقي منذ خليقته يعيش هاجس وارتحالات  اللجوء  ..

ولا اعرف لماذا وانا اقف امام  لوحة شوبير والمسماة آدم وحواء خيمة اللجوء لم يثيرني فيها بدهشة القراءة سوى التفاحة ،فبعضهم يعتبرها سر البلاء لانها انزلتهم من الجنة الى الارض ، والبعض اعتبرها واحدة من البركات الجميلة فبسببها نزلنا الى الارض واكتشفنا المتناقضات التي فينا حيث بمقدورنا أن نكتب الشعر ونغني ونزرع ونعمل ونعلن الحروب ، ونرى الخيبة في تجارب الحب الفاشلة ، وفي المعاكس تسكننا اللذة في تجارب الحب الناجحة. لوحة محمود شوبير ( آدم وحواء ) هي لوحة الحديث عن سحر وهاجس والنهاية التي انتهت اليها اول الاشياء ...

 ومعها اشعر انني من عشت تجارب اللجوء لخلق لمودة الحس في ريشة هذا الفنان وهو يرينا وجوها وايقاعات بدء وتواصل حضاري بين ما انتهت اليه حروب بابل واشور وسومر وأكد ، وما بين ما اصاب العراقي والفلسطيني والسوداني واليمني والصومالي والسوري واللبناني والليبي من ويلات حروب الداخل والخارج ،فتبدأ موجة استعادة هاجس التفاحة ،فنقضمها بفم البندقية وندفع الثمن جوازات سفر ولجوء . 

لهذا في رائية جديدة افترضها في تعدد دراستي لعالم محمود شوبير الفني والفكري أحاول أن اصنع المقارن السردي بين اللوحة وبين ازمنة لاتتشابه مع الموضوعة في الشروحات والتكوين بل تتقابل معها في الطيف الروحي والالتقاء المؤسطر بين اللوحة وقصتي فتكون قراءة غريبة لها أي ان القصة لاتقرأ اللوحة ولكنها تنتمي اليها بالخفاء والحس والروح والنتيجة . 

والغريب ان هذه السردية التي اردتها متقابلا روحيا مع لوحة صديقي شوبير قد كتبتها في ازل سنوات اللجوء ،فكانت حنينا لذكريات ذلك البدء حيث مدرستي في الاهوار العراقية التي تعينت فيها معلما ،والاهوار هي من بعض الامكنة المتخيلة والمؤسطرة لنزول ادم وحواء .

ولم تزل الى اليوم هناك شجرة سدر يعتقد انها شجرة آدم يتبرك فيها الناس في مدينة القرنة الواقعة قريبا من ضفاف الاهوار في الجنوب العراقي . 

(( فلقد اكتشفت انه خلال  ثلاثين سنة خدمة في بيئة المياه التي تحصر هواجسها بين إغفاءة جاموسة ورحمة نهر يجود عليها بالمياه، أن طبيعة المكان وخصوصيته هي من تخلق المزاج والثقافة والسلوك، لهذا حين أشرت على موظفي الخدمة في مدرستنا (ريكان، وشغاتي) بتثقيف أهل القرية بإرسال بناتهم إلى المدرسة، كان ردهما: الناس هنا تفكر بالنساء كعرائس وحلابات جواميس وخبازات خبز وحاصودات قصب. قلت: ونضيف إلى سجعكم هذا عبارة: ومتعلمات أبجديات.

 قال شغاتي: أنتم ثقِّفوهم، فحين أفعل، سيمتنعون ويقولون لي: أنت ليس في خلفتك بنات، لهذا لا يهمك أن يتركن بناتنا تنانير الخبز ويذهبن إلى البعير والتل، ومازن دق بابنا............! ضحك الجميع، وقلت: أنا من يدق أبوابهم. قالا: ونحن نمشي خلفك. نؤشر لك على البيوت التي تستحق بناتها المدرسة، هكذا جواسيس وإبليس.

 قلت: إبليس لا يحب التعلم، النبي (ص) هو الذي يُحب العلم، سنذكر لهم هذا. وهكذا وبجهد جهيد وصبر وزيارات كثيرة أقنعنا ثلاثة آباء لإرسال بناتهم (الحدِيثات) في الصف الأول، وغامرنا لنسجلهن في القيد العام بدون أن يكون لديهن هوية أحوال مدنية. بحجة أنهن مستمعات. 

المهم أن نعلم حواء واحدة، لنثبت أن الآية التي تقول: (وعلّم آدم الأسماء كلها) كانت تشمل حواء أيضاً، بالرغم أن واحداً من قراء المجالس الدينية في زيارة قديمة له أشار إلى هذه الآية وأقنع الناس هنا أن الله خص آدم فقط بهذه الآية ليتعلم. وهكذا في بدء العام الدراسي، رأيت مظاهر مختلطة من السعادة والخوف تسكن وجوه الدمى الصغيرة (فخرية، هندامة، نشوة) وهن يجلسن في الصف الأمامي ولا يعرفن ماذا يحدث بعد ذلك، المهم يسكن دواخلهن بعض الفضول والفرح أنهن كسرن حاجز هذا العالم الذي كان حكراً على الذكور من أطفال القرية. وفي اليوم الأول ظلّت الأمهات طوال ساعات الدوام ينتظرن بناتهن في هلع وقلق، وكأنّهن ذاهبات إلى مخفر شرطة بالرغم أن المدرسة لا تبتعد عن بيوتهن سوى أمتار قليلة.

 مرت الأيام الأولى بسلام، ولأول مرة يتعلق حرف (الدال) بأجفان صبية في هذا المكان، ولأول مرة أدركن أن الصرائف في جمعهن يشكلن مكاناً نطلق عليه كلمة (دار) وأن مجموع بيوت القرية تسمى (دور). أتخيل اللحظة الذي أتى فيه موعد توزيع القراءات الخلدونية على التلاميذ، حيث شاهدت هنا - ولأول مرة في حياتي ردفاً راقصاً لأنثى عندما هزت هندامة كتفيها راقصة بخبر أنهن سيستلمن اليوم أول كتاب تلامسه أصابعهن فيما انتشى التلاميذ وهم يشاهدون الرقصة البريئة لزميلتهم، فيما أغمضت أنا عينيَّ خجلاً، وحتى لا أحرجها ولتستمر بطقوس سعادتها، وأنا أتذكّر مقولة لمدير فرقة البولشوي الروسية وهو يقول: السعادة وسماع الموسيقا يبدأ من الكتف. وهكذا استطعنا أن نجلب حواء إلى معبد الحرف لتكون كاهنته.

 هندامة أكملت إلى الرابع وتزوجت. وفخرية نجحت من الثاني وتوفيت أمها لتكون هي ربة المنزل وغادرت المدرسة. 

وحدها نشوة أكملت مسيرتها إلى دار المعلمين، وهي اليوم أول حواء من بنات الأهوار تقدم أوراق التعيين لتكون معلمة على ملاك التعليم الابتدائي.)) تلك هي قصة حواء ، وانا هنا آدم الذي يروي حكايتها .هي بقيت هناك تزوجت وانجبت فوجاً من البنين والبنات ،وانا انتظرت من لجوئي سنة واحدة لأنال الأقامة في البلد الذي لجأت اليه ، وكلما اشتري تفاحا من السوبر الماركت التركي اتذكر تلك الازمنة حيث امكنة ما كنا نعتقد انها الجنة ،وحين اقارنها بناطحات السحاب في مدينة فرانكفورت التي اذهب اليها كلما اريد أن أعمل شهادة حياة لراتبي التقاعدي . 

استعيد ما رسمه الفنان محمود شوبير في لوحته ادم وحواء ، واحاول جاهدا أن اقنع نفسي أن قصتي تتلائم تماما فيما ابدعه وقصده الفنان محمود شوبير في لوحته الجميلة آدم وحواء وخيمة اللجوء. دورتموند 28 اكتوبر 2024  

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن