د. حبيب ظاهر حبيب
عمل الفنان مقداد مسلم مؤلف ومخرج مسرحية (أحوال وأمثال) على إنشاء امتداد لمسرحيّته الذائعة الصيت (الخيط والعصفور) التي عرضت عام 1984 وشهدت اقبالاً جماهيرياً واسعاً، امتد عرضها سنة تقريباً، وما زال الجمهور يتذكرها بمحبة تقترن بالمواقف الكوميدية والممثلون الذين جسدوا شخصياتها، وبعض العبارات التي أصبحت لازمة يرددها الجمهور إلى يومنا هذا.
وجاء حصاد النجاح استنادا إلى مقومات المسرحية الشعبية التي يحرص المخرجون على وجودها لكي يتمتع العرض بحضور جماهيري كثيف، منها: حضور الممثل النجم وتجسيده لشخصية رئيسية، وأن يشتمل العرض على الموسيقى والغناء والحركات الإيقاعيّة إلى جانب القفشات الكوميدية والحوار القريب من روح المتلقي، وأن تكون قاعة العرض وسط المدينة، مع اهمية الترويج الواسع للدعاية والإعلانات في وسائل عدة، وأماكن يرتادها المجتمع.
تكون العرض من فصلين بينهما استراحة، وبهذا أعاد (مقداد مسلم) الجمهور إلى زمن المسرحية الطويلة التي يقضي أفراد العائلة معها أمسية كاملة، يدخل الجمهور إلى الصالة ليجد بيتا عراقياً بغدادياً ماثلاً أمامه، وتستقبل مسامعه أغاني تراثية بهدف الدخول في بيئة العرض وأجوائه، وقبل بدء حكايات العرض قدمت الشخصيات نفسها للجمهور بصورة تعريفية مباشرة، ولم يعمد المؤلف المخرج إلى تقديم هذا التعريف في طيات الحوار وتوالي الأحداث كما هو المعتاد في العروض المسرحية، ثم بدأ الفعل الدرامي بمشهد صورة تعاقب الأجيال من خلال ولادة طفل (حمامة) زوجة (يابس) الذي كثر الحديث عنه وعن بخله ولم يظهر أبداً على خشبة المسرح، وقع فعل الولادة يسار خشبة المسرح، وبالوقت نفسه يموت الجد (عصفور) يمين الخشبة ومابين اليمين واليسار تتجول الشخصيات مفصحة عن مشاعرها إزاء الولادة والموت وتتحدث وتبحث عن وصية الجد المكتوبة.
ارتكز العرض على محورين، محور البحث عن وصية الجد (عصفور) ومحور سردية الأمثال الشعبية، مع التركيز على ثيمة انشغال العائلة بتطبيقات الهواتف المحمولة والتواصل عن بعد، وفقدان التواصل الوجاهي الحي مع أفراد العائلة، وقد أوصاهم جدهم بأن يكونوا ليوم واحد في الشهر مع بعضهم، يلتقون ويتحدثون فعلا دون هواتفهم ، وإذا بهم ينفذون الوصية الشفوية ويستمرون بالبحث عن الوصية المكتوبة، ويشغلون أنفسهم برواية الأمثال الشعبية وحكاياتها الشيقة. اطلق المؤلف تسميات متنوعة على شخصياته وقد انسجم أداء الممثلين مع طبيعة الشخصيات، وشكل وحدة إيقاعية متناغمة بفعل تأطير الشخصيات جميعاً -عدا شخصية واحدة- بالروح العراقية وإيقاعات الأغاني البغدادية التراثية، مما جعل للعرض ترجيعات في ذات المتلقي، وبالنتيجة نسج المخرج خيوطا كثيرة تربط بين مجريات العرض وجمهوره، مع الالتفات إلى أن تذوق الأغاني التراثية لا يمكن تعميمه على جميع الفئات العمرية الحاضرة في العرض ، بسبب من تباين ذائقة الأجيال، مع الأخذ بالاعتبار ضرورة تعريف الأجيال الحديثة بالتراث بأنواعه.
كتلة المنظر ذات الطابقين ثابتة دون تغيير طوال العرض، دون الأخذ بالاعتبار ضرورة التنوع البصري في المسرحية الطويلة نسبياً، فضلا عن أن الوقت الذي استغرقته أحداث المسرحية سنة، وكانت فسحة الاستراحة بين الفصلين فرصة مواتية لتغيير المنظر جزئياً، وقد استثمر المخرج مناطق الخشبة، فكان الطابق العلوي مشغولاً لفترة وجيزة لمشاهد الجيران (غنية ومكرودة) دلالة تسلطهم الفوقي على أصحاب الدار، ومنح المخرج الجارة (كفوشة) وزوجها منطقة أسفل يمين الخشبة لإجراء محاورتهم وتآمرهم وطمعهم بالحصول على شيء بعد العثور على الوصية المفقودة، اقتصر تغيير الأزياء الملحوظ على الشخصيات النسائية فقط.
وقد تمت مراعاة عزل بعض المشاهد بواسطة الإضاءة عن عموم المنظر، مع اضافة ملحقات للشخصية، وتجلى ذلك في أحداث مشهد القاضي الخائن للأمانة أسفل يسار الخشبة، وأضيفت لشخصية القاضي بطن كبيرة وجبة وطربوش ولحية طويلة ساهمت بتغيير بنية الشخصية ومنحها الدلالة المتوخاة، واحدث المشهد تفاعلا، وتغييرا متصاعدا في إيقاع العرض، وكسر رتابة تكتل التمثيل في وسط المسرح.
تسيد الخطاب المباشر للجمهور حيزا كبيرا من زمن العرض من خلال فعل سرد الأمثال الشعبية وأدائها التقديمي، وفي هذا اتضحت قدرات الممثلين على تقديم أكثر من شخصية من قبل الممثل الواحد عبر تغييرات طبقات الصوت وأسلوب الإلقاء فضلا عن الاستعانة ببعض الإيماءات والملحقات الموحية، ذلك أن لعبة التمثيل داخل التمثيل احدى جماليات تأليف واخراج هذا العرض الذي بانت فيه السمات الفنية للمسرح الملحمي بوضوح، مثل الاستعانة بالتراث والحكاية داخل حكاية، وفعل القص والرواية ، المشاهد المتعددة، عدم الاندماج في الشخصيات وقطع الايهام بصدقية الأحداث، وتقديم صور مغربة للواقع.
وقد اسند المؤلف/ المخرج مهمة تنسيق حكايات الأمثال وتوزيع أدوارها إلى شخصية (فاهم) مثقف العائلة الذي يرتاد شارع المتنبي إلى (حسين علي هارف) الذي أمسك بدفتر والقى أبياتا شعرية وأشار إلى الممثلين بتقديم حكايات الأمثال بحسب أولويات تنظيمية وكانه قائد أوركسترا العرض، مع الحاجة الى المزيد من وضوح طبيعة علاقة (فاهم) بشخصية (زوريه) في الوقت الذي زرع المؤلف/المخرج حب (زوريه) لـ (فاهم) منذ بداية العرض كمعادل مكافئ لتدفق مكائد المرأتين الباحثتين عن الزواج (مكرودة المرأة العانس، وغنية المرأة الغنية التي توفي عنها ثلاثة أزواج وما زالت تبحث عن الرابع) الشخصية الوحيدة المستثناة من الإطار المحلي التراثي والروح العراقية هي شخصية (كومار الهندي) التي دخلت في مشهدين، ورغم افتقاد حضورها مبرراته الفنية في سياق العرض التراثي، إلا أنها أعطت للعرض زخما كوميديا، ومنحته حيوية جذابة لشريحة من الجمهور الذي حضر وجل مقصده فاصل ترفيهي، وعليه كان وجود (كومار الهندي) أحد المتطلبات الجماهيرية.
ختم العرض بالعثور على وصية الجد عصفور بعد مأساة تقاتل أفراد العائلة، وماتت (زورية) البنت الرقيقة وهاجر (فاهم) المثقف الذي يعول الجميع على فعالية شخصيته، وجرح (كناري) المغني وتفرق الآخرون عدا الحفيد عصفور وأخته و (بردان) الذي يصفونه بالبلادة والبلاهة ، وهنا تحدث المفاجأة عندما يخلع (بردان) عنه سترته لتسقط منها ورقة وصية الجد (عصفور) ويتذكر بعد مرور أكثر من سنة ان جده أعطاه الوصية ووضعها في جيبه، هذا دون تعريف الجمهور بمضمون الوصية المكتوبة والإبقاء على فحوى الوصية الشفوية (اعملوا على الاجتماع مع بعضكم دون الانشغال بهواتفكم الجوالة).
إن ما فعله صاحب المسيرة الفنية الطويلة الذي أخرج مسرحية (المهندس والامبراطور) التجريبية بالأمس ومسرحية (أحوال وامثال) اليوم، الأكاديمي (مقداد مسلم) وفريق العرض الفني والتقني ليس خطوة على طريق اعادة الجمهور إلى المسرح وحسب، بل ذهبوا إلى اعداد وصناعة جمهور جديد، عسى ان تكلل جهودهم النبيلة بخطوات أخرى تضمن التواصل والديمومة وتفتح الأفق للفرق الأخرى للعمل ضمن توجهات (المسرح للمجتمع).