14 Jul
14Jul

ياسر كريم مخرج شاب يعيش ويعمل حالياً في بغداد، نال بكالوريوس في علوم الكيمياء من الجامعة المستنصرية. 

استهوته السينما، فنال شهادة ماجستير في الإخراج السينمائي من Kino Eyes – The European Film Masters (مقرّها الأساسي في لشبونة ـ البرتغال).

 له أفلامٌ قصيرة عدّة، منها "مملكة النفايات" (2015). حاورته "العربي الجديد" حول أعماله السابقة ومشروعه الروائي الأول "عين حرا". 

في معظم أفلامك اهتمامٌ بالموروث الشعبي العراقي. ما السبب؟

بالنسبة إليّ الموروث الشعبي العراقي يحمل بذرة إعادة تشكيل، أو بعث الهوية أو الهويات العراقية، نحن بحاجة إليه الآن أكثر من أي وقت مضى، ليس فقط باستعادة عاطفية أو استذكار عابر، بل باسترجاع محتوى الموروث والفولكلور وطقوسه بوصفه مخيال الأرض التي ولدنا فيها. يستطيع الفولكلور، في أي مكان، توحيد الناس مع ضمان تعدّد ألوانهم وأشكالهم وخلفيّاتهم، فالقصص الشعبية العراقية مثلاً تتشابه من جنوب العراق إلى شماله تقريباً.

 هذا يسري على أشكال عدّة من الموروث والفولكلور، وبالتالي هذه نقطة تلاقٍ يُمكن استثمارها في ظلّ الاختلاف الذي تقدّمه السرديات الأخرى للناس، وتدفعهم إلى التناحر والانفصال. 

إنّها "رواية الأرض" التي تدفعنا للنظر إلى المتشابه فينا بصورة أكبر.

 أحياناً، أشعر بأن الفولكلور والموروث هما "الرواية الأنثوية" التي تتّسم بالحميمية وجمع الناس، بينما "الرواية الذكورية" تُفرّق بينهم.

 ماذا عن "عين حرا" الذي أجّلت التزامات سينمائية كثيرة بسببه؟

هذا مشروع أول روائي لي، أعمل عليه منذ سنوات. 

رؤية مستقبلية أريد فيها لفت النظر إلى وحش التصحّر والجفاف الذي ينسلّ يوميا بيننا من دون درايتنا. التصحّر والجفاف يرمزان أيضاً إلى عالمٍ تسود فيه رؤى الذكورية.


 تتحدّث قصّته عن خمس نساء قُتلن بوحشية، ودُفِنّ في الصحراء العراقية.

 هناك من يكتشف أنّ مكان الدفن بات حفرة كبيرة بشكل عين، وأنّ النساء الخمس تحوّلن إلى كائنات مرعبة، اسمها "سعالي عين حرا"، أنزلن لعنة الجفاف والعواصف الترابية الدائمة على العراق، وهنّ يبحثن عن آخر معاقل المياه فيه. جزيرة سحرية تختفي وتظهر في الجنوب، تدعى "جزيرة حفيظ السحرية"، لن يتمكن أحدٌ من إيجادها ما لم يعثر أولاً على فتاة موعودة برؤية الجزيرة ومكانها. فئة المشروع دراما ممزوجة بعناصر رعب وفولكلور. 

إنّه نظرة منبثقة من نظرة العراقي القديم، الذي كان يحسب العاصفة الترابية آلهة شيطانية قادمة من العالم السفلي، هدفها معاقبة البشر وإفنائهم. 

أرى هذا صحيحاً جداً، فمهما كانت النظرة بدائية، فإنّها مليئة بالمعاني، وأرى أنّنا يجب التعامل معها ليس من كونها صحيحة أم خاطئة، 

بل لماذا أساساً كان العراقي القديم يفكر بطريقة كهذه، وما الذي دفعه إلى ذلك. ربما نجد جواباً ينقذنا، ولو وجدانياً، من مشكلة لن نصمد أمامها لعشرين عاماً مقبلة، إذْ سيعمّ الجفاف معظم الأراضي العراقية، وسيموت الإنسان والحيوان والنبات، وستحلّ الكارثة، خاصةً مع فشل مشاريع الدولة في هذا المجال، وسكوتنا نحن عنه. هل مثل هذه المواضيع تستهوي المتلقّي، خاصة في العراق؟ أعتقد أنّ العراقي تحديداً متعطّش لأفلامٍ غير تقليدية. إنّه يشاهد منتجات المنصّات العالمية، ويجد تنوّعاً وفسحة كبيرين، يُبعدانه يومياً، أكثر وأكثر، عن المنتجات المحلية، التي يرى فيها تشنّجاً واضحاً في كلّ مفاصلها. علينا مواكبة الأجنبي كأيّ سلعةٍ يستهلكها الفرد العراقي، وإلا ستكون هذه السلعة قليلة الاستهلاك والوصول إلى الناس، رغم كونها محلية.

صناعة السينما والدراما في العراق تحتاج إلى إعادة نظر في المحتوى، وليس الشكل فقط. مواضيع الساعة والحدث والترند تبقى في رؤوس الناس فترة أطول من وقت مشاهدتها. نفتقر إلى سؤال الجدوى وحاجة الجمهور قبل صُنع أي دراما أو فيلم.

 المنصات التي تعرض الأفلام للناس في العراق تؤشّر إلى أنّ هناك إقبالاً على أفلام الرعب والخيال، ونحن لدينا إرث هائل في هذا المجال: تراثنا وفولكلورنا، وكذلك من حضارات العراق القديمة. 

ألاحظ خروجك عن السائد في اختيار مواضيع أفلامك خلافاً لأفلام جيلك. بماذا تفسّر هذا؟ أحاول التركيز على الذاتي ـ الشخصي أولاً عند البطل، أو الشخصية الرئيسية، الذي منه يوضع شكل العالم الذي حوله. كلّ واحد يرى العالم "الواقعي" بنظرته الخاصة، وبالتالي فالعالم يختلف عند كلّ فرد. 

هذا ما حاولت تمريره في مجمل أفلامي القصيرة. لكنْ، منذ عام 2020، عكفت على استحضار روح الموروث، وزجّ عالم الحكايات الشعبية القديمة بثوبٍ جديد لا يستثني المشاكل الحالية بالتأكيد، لكنّه يعبّر عنها بشكل مختلف. 

هذا نابعٌ بالتأكيد من دافع شخصي أولاً وأخيراً، بمعنى أنّ الأفلام نابعة من مشاكل شخصية حقيقية، أو من شيءٍ أمارسه في الواقع، وهذا يحفّزني لإكمالها وصنعها.

ما الصعوبات التي تواجهها في إنجاز "عين حرا"؟ كأول روائي طويل لي، تكمن الصعوبات في التمويل في العراق، والتمويل الخارجي آخذ بالشحّ يوماً بعد آخر.

 تمويل الأفلام في العراق يمرّ بمسيرة عاطفية أكثر منها موضوعية وعملية.

 فالمال يأتي كهبةٍ، وليس كميزانية مدروسة الجدوى، وبالتالي تستمرّ عملية الإنفاق غير المجدي مقارنة مع المعايير العالمية وحتى الإقليمية في دول الجوار. 

عدم وضوح المعايير في الصناعة يجعلنا نبذّر المال مع خسارة جمهورنا في العراق، وضياع فرص مواهب حقيقية تبحث عمن يحتضنها في الجانب الآخر.

 صعوبة أخرى تكمن في إقناع المنتجين بفيلمٍ عراقي لا يحمل النمط السائد في القصّ. لطالما شعرتُ، وأنا أتنقل من مهرجان إلى آخر لجعل المشروع ممكناً، بأنّ الأفلام التي يريدها "الآخر" منا يجب أنْ تتحدّث عمّا جرى لنا هنا: الحرب وداعش والتفجيرات والنزوح. أفلام تجعلنا نحن الحدث، لا من يرويه. 

حتى أنّك تجد أنّ قصة صانع الفيلم أبلغ من فيلمه بحدّ ذاته.

 لا أدعو إلى إلغاء الحديث عن هذه المواضيع، لكنّي لست مع تحوّل أفلامنا إلى مواضيع "منظّمات مجتمع مدني"، هدفها تحفيزي، أو أن تشخص مشكلة وتضع لها حلاً. الفيلم ليس "حَلّال" مشاكل، بل إنّه يطرح المشكلة، ويجعلها تدور في الأفق من زاوية لا ينظر الجميع إليها منها. إنّه غير معني البتة بطرح أي إجابة.

 مع ذلك، عندما قرّرت تصوير مشاهد للتجربة والبرهان، وجدت تعاوناً من مؤسّسات معنية، وأصدقاء عديدين في الوسط الفني، بقدر ما تعلّق الأمر بهم. 

هذا يجعلني أستمرّ، وأثمّن كلّ جهد مهما عظم أو صغر حجمه. كيف تجد مسألة إنتاج الفيلم العراقي؟ هل ترى أنّ الإنتاج المشترك حلّ؟ انعدام مفهوم شبّاك التذاكر التقليدي، وكذلك الشبّاك الإلكتروني، كالمنصّات التي يجب دفع بدل اشتراك بها، يحثّني على القول إنّ مسألة الإنتاج في العراق ستبقى عالقة بين المال المقبل من الدولة كهبات، والمال المقبل من صاحب القناة الفضائية أو المؤسّسة ذات الأجندات التي تريد صنع مسلسل درامي بتوجيهات معينة. الطرفان يفتقران إلى الجدوى الاقتصادية، التي تدفع عملية الصناعة إلى الاستمرار بشكل صحّي طبيعي. الحلّ أنْ تقنّن الدولة، بمعايير صارمة، إنفاق المال، وإعطائه ليس كهبة بل كطريقة ربحية ومستدامة، كما في الدول الأخرى، وتجاربها في هذا المجال. 

من ناحية أخرى، يجب تثقيف الناس بأنّ زمن المشاهدة المجانية للأفلام والمسلسلات يجب أنْ ينحصر أو ينتهي لإعطاء دور لشركات القطاع الخاص للانخراط في تأسيس قاعدة إنتاجية صحيحة. مجموعة شركات تشترك في صنع منتج فني محلي ذي مواصفات عالمية. 

تجارب مصر وإيران والسعودية حديثة العهد ليست بعيدة عمّا أطرحه هنا. 

كيف ترى المشهد السينمائي العراقي، وما يقوم به بعض شباب السينما؟

ما يقوم به الشباب تظاهرة أكثر منها فعل حقيقي. أفعال فردية لا قاعدة لجيل قادم. لا يزال المشهد نظرياً ـ عاطفياً أكثر مما هو عملي ـ موضوعي. المشهد السينمائي، رغم إيجابيات عدّة، أرى سناه يخبو يوماً بعد يوم. 

كثرة الأفلام القصيرة والمهرجانات المنظمة في المحافظات، التي ارتضت لنفسها عزلة عن العالم ومعاييره ومواكبته والاتصال به، لا تدفع إلى التفاؤل قدر ما تثير الريبة.

 تشعر بأنّ الأفلام كلّها نشرة أخبار متلفزة عن "حالنا السيئ". أفلام تثير حنق المُشاهد، وتدفعه إلى التساؤل ورصد الأخطاء أكثر من جعله ينسجم ويندمج بالمتابعة. 

نحن بحاجة إلى تقليل العدد، وتكثيف النوع بشكل حقيقي. أقدِّر الشباب الذين يحاولون صنع السينما بروح وثّابة وعزيمة عالية، رغم كلّ شيء.


تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن